|
خيارات الموضوع |
|
مقــــــــــــدمة السيرة النبوية هي علم يهتم بدراسة تاريخ حياة خاتم الأنبياء والمرسلين صلى الله عليه وسلم من مولده إلى وفاته , بحيث لم تغفل صغيرة ولا كبيرة من حياته في جميع جوانبها , لذا سيرته تعتبر من أصح السيرة لتاريخ نبي مرسل أو عظيم مصلح حيث وصلت إلينا عن أصح الطرق العلمية وأقواها ثبوتا , كما أنها جعلت من حياته أكثر وضوحا , وهذا ما لم يتوفر في أحد قبله أو بعده , ولذلك يقول أحد النقاد الغربيين : إن محمدا هو الوحيد لذي ولد على ضوء الشمس, كما أن سيرته شاملة لكل النواحي الإنسانية مما يجعله قدوة صالحة لكل إنسان على هذه الأرض , كما أن سيرته سيرة إنسان كامل صاغ بدعوته من نصر إلى نصر لا عن طريق المعجزات والخوارق بل عن طرق طبيعي بحت, فما أزفت ساعة وفاته حتى كانت دعوته تلف الجزيرة كلها عن طريق الإيمان لا عن طريق القوة . ولادة الرسول صلى الله عليه وسلم حول معجزات ولادته صلى الله عليه وسلم: يقول الشيخ محمد الغزالي: ولد محمد صلى الله عليه وسلم بمكة ولادة معتادة لم يقع فيها ما يستدعي العجب أو يستلفت النظر، ولم يمكن المؤرخين تحديد اليوم والشهر والعام الذي ولد فيه على وجه الدقة، وأغلب الروايات تتجه إلى أن ذلك كان عام هجوم الأحباش على مكة سنة 570 م في الثاني من ربيع الأول سنة 53 ق.هـ. وتحديد يوم الميلاد لا يرتبط به من الناحية الإسلامية شيء ذو بال، فالأحفال التي تقام لهذه المناسبة تقليد دنيوي لا صلة له بالشريعة. وقد روى البعض أن إرهاصات بالبعثة وقعت عند الميلاد، فسقطت أربع عشرة شرفة من إيوان كسرى، وخمدت النار التي يعبدها المجوس، وانهدمت الكنائس حول بحيرة (ساوة) بعد أن غاضت. قال البوصيري: أبان مولده عن طيب عنصره يا طيب مبتدأ منه ومختتم يوم تفرس فيه الفرس أنهــم قد أنذروا بحلول البؤس والنقم وبات إيوان كسرى وهو منصدع كشمل أصحاب كسرى غير ملتئم والنار خامدة الأنفاس من أســف عليه، والنهر ساهي العين من سدم وساء ساوة أن غاضت بحيرتها ورد واردها بالغيظ حين ظمى وهذا الكلام تعبير غلط عن فكرة صحيحة، فإن ميلاد محمد كان حقا إيذانا بزوال الظلم واندثار عهده واندكاك معالمه، وكذلك كان ميلاد موسى، ألا ترى أن الله لما وصف جبروت فرعون، واستكانة الناس إلى بغيه، ثم أعلن عن إرادته في تحرير العبيد واستنقاذ المستضعفين، قص علينا قصة البطل الذي سيقوم بهذه الأعمال فقال: { فأوحينا إلى موسى أن أرضعيه...} وقد كانت رسالة محمد بن عبد الله أخطر ثورة عرفها العالم للتحرر العقلي والمادي، وكان جند القرآن أعدل رجال وعاهم التاريخ، وأحصى فعالهم في تدويخ المستبدين وكسر شوكتهم، طاغية إثر طاغية. فلما أحب الناس ـ بعد انطلاقهم من قيود العسف ـ تصوير هذه الحقيقة، تخيلوا هذه الإرهاصات، وأحدثوا لها الروايات الواهية، ومحمد صلى الله عليه وسلم غني عن هذا كله، فإن نصيبه الضخم من هذا الواقع المشرف يزهدنا في هذه الروايات وأشباهها. الرضاعة فائدة من إرساله صلى الله عليه وسلم إلى البادية: يقول الشيخ محمد الغزالي: إن تنشئة الأولاد في البادية، ليمرحوا في كنف الطبيعة، ويستمتعوا بجوها الطلق وشعاعها المرسل، أدى إلى تزكية الفطرة، وإنماء الأعضاء والمشاعر، وإطلاق الأفكار والعواطف. إنها لتعاسة أن يعيش أولادنا في شقق ضيقة من بيوت متلاصقة كأنها علب أغلقت على من فيها، وحرمتهم لذة التنفس العميق والهواء المنعش. ولا شك أن اضطراب الأعصاب الذي قارن الحضارة الحديثة يعود ـ فيما يعود إليه ـ إلى البعد عن الطبيعة، والإغراق في التصنع. ونحن نقدر لأهل مكة اتجاههم إلى البادية لتكون عرصاتها الفساح مدارج طفولتهم. وكثير من علماء التربية يودون لو تكون الطبيعة هي المعهد الأول للطفل؛ حتى تتسق مداركه مع حقائق الكون الذي وجد فيه حادثة شق الصدر في حادثة شق الصدر: يقول الشيخ سعيد حوى: لقد ذكر العلماء أن هناك قلبا حسيا للإنسان يرتبط به ـ نوع ارتباط ـ القلب الذي هو محل الكفر والإيمان ومحل الرجاء والخوف والحب والبغض، ولا شك أن الشق الحسي استهدف القلب الثاني الذي هو غيب من الغيب، وإن كان بعض ما يجرى فيه وعليه محسا من الإنسان، هذا القلب يمرض، وتتراكم عليه تراكمات، وتطرأ عليه الحجب. وتَكرُّر حادثة الشق قبل النبوة أي قبل التكليف فيه إشارة إلى إرادة الله ـ عز وجل ـ في أن يبقى قلب محمد على حالة خاصة استصلاحا وإعدادا، وهذا يفيد أنه حتى أطهر القلوب يحتاج إلى شيء من عالم الأسباب ليبقى على صفاء ونقاء، وتكرر حادثة شق الصدر قبيل الإسراء والمعراج فيه إشارة إلى أن بعض مقامات القلوب يحتاج إلى مزيد من الصفاء القلبي. ويقول الشيخ محمد الغزالي: وشيء واحد هو الذي نستطيع استنتاجه من هذه الآثار، أن بشرا ممتازا كمحمد لا تدعه العناية غرضا للوساوس الصغيرة التي تناوش غيره من سائر الناس. فإذا كانت للشر (موجات) تملأ الآفاق، وكانت هناك قلوب تسرع إلى التقاطها والتأثر بها؛ فقلوب النبيين ـ بتولي الله لها ـ لا تستقبل هذه التيارات الخبيثة ولا تهتز لها. وبذلك يكون جهد المرسلين في متابعة الترقي لا في مقاومة التدلي، وفي تطهير العامة عن المنكر لا في التطهر منه، فقد عافاهم الله من لوثاته. عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما منكم من أحد إلا وقد وكل به قرينه من الجن وقرينه من الملائكة. قالوا: وإياك يا رسول الله؟ قال: وإياي، إلا أن الله أعانني عليه فأسلم، فلا يأمرني إلا بخير" وفي حديث عائشة، قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أغرت" قالت: وما مثلي لا يغار على مثلك. فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لقد جاءك شيطانك" قالت: أو معي شيطاني؟ قال: "ليس أحد إلا ومعه شيطان" قالت: ومعك؟ قال: "نعم ولكن أعانني الله عليه فأسلم" أي انقاد وأذعن فلا يستطيع أن يهجس بشر. ولعل أحاديث شق الصدر تشير إلى هذه الحصانات التي أضافها الله على محمد صلى الله عليه وسلم، فجعلته من طفولته بنجوة قصية عن مزالق الطبع الإنساني ومفاتن الحياة الأرضية. في غار حراء ردود على المشككين في حقيقة الوحي: يقول الشيخ سعيد البوطي: إن هذه الحالة التي مر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم تجعل مجرد التفكير في كون الوحي إلهاما نفسيا ضربا من الجنون، إذ من البداهة بمكان أن صاحب الإلهامات النفسية والتأملات الفكرية لا يمر إلهامه أو تأمله بمثل هذه الأحوال. إذن فإن حديث بدأ الوحي على النحو الذي ورد في الحديث الثابت الصحيح، ينطوي على تهديم كل ما يحاول المشككون تخييله إلى الناس في أمر الوحي والنبوة التي أكرم الله بها محمدا عليه الصلاة والسلام. وإذا تبين لك ذلك أدركت مدى الحكمة الإلهية العظيمة في أن تكون بداءة الوحي على النحو الذي أراده عز وجل. وربما عاد بعد ذلك محترفو التشكيك يسألون:فلماذا كان ينزل عليه صلى الله عليه وسلم الوحي بعد ذلك وهو بين الكثير من أصحابه فلا يرى الملك أحد منهم سواه؟ والجواب: أنه ليس من شرط وجود الموجودات أن ترى الأبصار إذ أن وسيلة الإبصار فينا محدودة بحد معين، وإلا لاقتضى ذلك أن يصبح الشيء معدوما إذا ابتعد عن البصر بعدا يمنع من رؤيته. على أن من اليسير على الله جل جلاله ـ وهو الخالق لهذه العيون المبصرة ـ أن يزيد في قوة ما شاء منها فيرى ما لا تراه العيون الأخرى. يقول مالك بن نبي في هذا الصدد: "إن عمى الألوان مثلا يقدم لنا حالة نموذجية لا يمكن أن ترى فيها بعض الألوان بالنسبة لكل العيون، وهنالك أيضا مجموعة من الإشعاعات الضوئية دون الضوء الأحمر وفوق الضوء البنفسجي لا تراها أعيننا، ولا شيء يثبت علميا أنها كذلك بالنسبة لجميع العيون، فقد توجد عيون يمكن أن تكون أكثر أو أقل حساسية" ثم إن استمرار الوحي بعد ذلك يحمل الدلالة نفسها على حقيقة الوحي، وأنه ليس كما أراد المشككون: ظاهرة نفسية محضة. ونستطيع أن نجمل هذه الدلالة فيما يلي: 1-التمييز الواضح بين القرآن والحديث، إذ كان يأمر بتسجيل الأول فورا على حين يكتفي بأن يستودع الثاني ذاكرة أصحابه، لا لأن الحديث كلام من عنده لا علاقة للنبوة به؛ بل لأن القرآن موحى به إليه بنفس اللفظ والحرف بواسطة جبريل عليه السلام، أما الحديث فمعناه وحي من الله عز وجل ولكن لفظه وتركيبه من عنده عليه الصلاة والسلام، فكان يحاذر أن يختلط كلام الله عز وجل الذي يتلقاه من جبريل بكلامه هو. 2-كان النبي صلى الله عليه وسلم يسأل عن بعض الأمور فلا يجيب عليها وربما مر على سكوته زمن طويل، حتى إذا نزلت آية من القرآن في شأن ذلك السؤال طلب السائل وتلا عليه ما نزل من القرآن في شأن سؤاله. وربما تصرف الرسول في بعض الأمور على وجه معين فتنزل آيات من القرآن تصرفه عن ذلك الوجه، وربما انطوت على عتب أو لوم له. 3-كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أميا، وليس من الممكن أن يعلم إنسان بواسطة المكاشفة النفسية حقائق تاريخية كقصة يوسف، وأم موسى حينما ألقت ولديها في اليم، وقصة فرعون، ولقد كان هذا من جملة الحكم في كونه صلى الله عليه وسلم أميا: { وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك إذا لارتاب المبطلون } 4-إن صدق النبي صلى الله عليه وسلم أربعين سنة مع قومه واشتهاره فيهم بذلك يستدعي أن يكون صلى الله عليه وسلم من قبل ذلك صادقا مع نفسه، ولذا فلابد أن يكون قد قضى في دراسته لظاهرة الوحي على أي شك يخايل لعينيه أو فكره. وكأن هذه الآيات جاءت ردا لدراسته الأولى لشأن نفسه من الوحي: { فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك فاسأل الذين يقرؤون الكتاب من قبلك. لقد جاءك الحق من ربك فلا تكونن من الممترين } ولذا روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال بعد نزول هذه الآية: "لا أشك ولا أسأل". الجهر بالدعوة دعوة أولي القربى: يقول الشيخ سعيد حوى: يغفل كثير من الدعاة عن تذكير أسرهم وأهليهم وعشيرتهم وأقاربهم ، وهذا مجاف للفطرة ولفقه الدعوة ولسنة الدعوة، فعلى الداعية إلى الله أن يخص أرحامه وأقاربه ببعض الوقت لدعوتهم وتعليمهم وتربيتهم . إن أصل الفطرة أن يحب الإنسان أقاربه وأرحامه، وأن يحرص على ما ينفعهم، وأن يبعد عنهم ما يضرهم. والداعية إلى الله همه الأول أن ينقذ الناس من النار ، فإذا ما أهمل أقرب الناس إليه ، فكأنه يدلل على عدم صدقه في دعوته ، فإن كان همه الإنقاذ فهؤلاء أولى الناس بالبداءة ، أما إذا كان همه الزعامة والرئاسة وهؤلاء مطمئن لموقفهم منه فهذه كارثة ، أو كان لا تحركه نحوهم عاطفة خاصة فهذا مجاف للفطرة ، المهم أن كل داعية لابد أن يخص أهله وأقاربه بمزيد عناية ابتداءاً ، والابتداء سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم . قال السباعي : إن على الداعية أن يهتم بأقربائه ، فيبلغهم دعوة الإصلاح ، فإذا أعرضوا ، كان له عذر أمام الله والناس ، عما هم عليه من فساد وضلال . حجة الوداع حول خطبة حجة الوداع: يقول الدكتور سعيد البوطي: والله ما أروعها من كلمات، تلك التي ألقاها في سفوح عرفات، راح يخاطب فيها الأجيال والتاريخ بعد أن أدى الأمانة ونصح للأمة، وجاهد في سبيل الدعوة إلى ربه ثلاثة وعشرين عاما لا يكل ولا يمل. ولله ما أروعها من ساعة، تلك التى اجتمع حول رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها الآلاف المؤلفة، اجتمعوا حوله خاشعين متضرعين، وطالما تربصوا به قبل ذلك متآمرين ومحاربين. آلاف مؤلفة يملئون ما يمتد به النظر من كل الجهات، تردد بلسان حالها قول الله عز وجل: (إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد). وأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر من خلال وجوههم إلى الأجيال المقبلة، إلى العالم الإسلامي الكبير الذي سيملأ شرق الأرض وغربها، وراح يلقي على مسامع هذا العالم خطابه المودع: "أيها الناس، اسمعوا قولي، فإني لا أدري لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا بهذا الموقف أبدا..." وأنصتت الدنيا لتسمع قوله، وأنصت الحجر والقفر والمدر إلى الكلمة المودعة ينطق بها فم رسول الله صلى الله عليه وسلم، بعد أن أنست وسعدت به الدنيا كلها ثلاثة وستين عاما، ها هو اليوم يلمح بالرحيل، بعد أن قام بأمر ربه وغرس الأرض بغراس الإيمان. وها هو الآن يلخص المبادئ التي جاء بها وجاهد في سبيلها في كلمات جامعة، وبنود معدودة، يلقي بها إلى سمع العالم. فماذا كان أول بند منها؟ يا سبحان الله، ما أجل وأروع! لكأنه صلى الله عليه وسلم إنما كان يستلهم توصياته تلك من واقع المنزلقات التي سيتنكب فيها أقوام من أمته عبر الزمن، تائهين وراء غيرهم عن القبس الذي سيتركه بين أيديهم، فلقد كان أول بند منها هو قوله: أيها الناس، إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام إلى أن تلقوا ربكم، كحرمة يومكم هذا وكحرمة شهركم هذا. ولقد كرر هذه التوصية نفسها مرة أخرى في خاتمة خطابه، وأكد ضرورة الاهتمام بها وذلك عندما قال: تعلمُنَّ أن كل مسلم أخ للمسلم وأن المسلمين إخوة؛ فلا يحل لامرئ من أخيه إلا ما أعطاه عن طيب نفس منه، فلا تظلمن أنفسكم. ألا هل بلغت؟ ونحن نقول: أجل والله، لقد بلغت يا سيدي..ولعلنا اليوم أولى من ينبغي أن يجيبك: اللهم لقد بلغت!..وإن كان في ذلك إنما نسجل مسئولية على أعناقنا، قصرنا كل التقصير في القيام بحقها. أما البند الثاني: فلم يكن مجرد توصية، ولكنه قبل ذلك قرار أعلن عنه للملأ كله.. لأولئك الذين كانوا من حوله، وللأمم التي ستأتي من بعده. وهذه هي صيغة القرار: ألا إن كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع! .. دماء الجاهلية موضوعة .. وربا الجاهلية موضوع .. فما المعنى الذي تتضمنه صيغة هذا القرار؟.. إنه يقول: إن كل ما كانت الجاهلية تفخر وتتمسك به من تقاليد العصبية والقبلية، وفوارق اللغة والأنساب والعرق، واستعباد الإنسان أخاه الإنسان بأغلال الظلم والمراباة، قد بطل أمره ومات اعتباره، فهو اليوم جيفة منتنة غيبتها شريعة الله في باطن الأرض، وأصبح مكانها من حياة المسلم اليوم تحت موطئ الأقدام. إنه رجس ولَّى، وعماهة أدبرت، وغاشية بادت. فمن ذا الذي يرجع بعد ذلك لينبش التراب عن الجيفة المنتنة فيعانقها؟ وأي عاقل يتقمم الأدران التي تخلص منها ليتمسح ثانية بها؟ وأي أبيٍّ يعمد إلى القيد الذي كسره البارحة وألقاه، ليصلحه ويعود فيتقيد به اليوم؟! أرجاس من تقاليد الجاهلية، أبعدها الرسول صلى الله عليه وسلم عن منطلق الإنسانية وتقدمها الفكري والحضاري، وأعلن أنها قد عادت حثالة مدفونة تحت قدميه، كي يثبت للدنيا كلها ويسجل على سمع القرون والأجيال، أنه ما من تائه يزعم التقدم الفكري إذ يعمد فينبش شيئا من هذا الدفين القديم، إلا وهو يرجع القهقهرى، يسبح في أغوار قصية من التاريخ المظلم القديم، وإن خيَّل إليه وهمه أنه إنما يتقدم صعدا ويخطو مترقيا. وفي البند الرابع: أوصى رسول الله صلى الله عليه وسلم خيرا بالنساء، وأكد في كلمة مختصرة جامعة، القضاء على الظلم البائد للمرأة في الجاهلية، وتثبيت ضمانات حقوقها وكرامتها الإنسانية التي تضمنتها أحكام الشريعة الإسلامية. ولقد كانت هذه الحقيقة جديرة بتأكيد التوصية بها، بسبب أولئك المسلمين الذين كانوا قريبي عهد بتقاليدهم الجاهلية، التي تقضي بإهمال شأن المرأة وعدم الاعتراف بأي حق لها، ولعل هنالك حكمة أخرى لهذه التوصية والاهتمام بها، وهي أن يكون المسلمون في كل عهد وطور من الزمن، على بينة من الفرق الكبير بين كرامة المرأة وحقوقها الطبيعية التي ضمنتها شرعة الإسلام، وما يهدف إليه بعضهم من استباحة الوسائل المختلفة إلى التمتع والتلهي بها، وهو ما حاربه الإسلام. وفي البند الخامس: وضع النبي صلى الله عليه وسلم الناس من جميع المشاكل التي قد تعترض حياتهم أمام مصدرين لا ثالث لهما، ضمن لهم الاعتصام بهما الأمان من كل شقاء وضلال، هما: كتاب الله وسنة رسوله. وإنك لتجده يتقدم بهذا التعهد والضمان إلى جميع الأجيال المتعاقبة من بعده، ليبين للناس أن صلاحية التمسك بهذين الدليلين ليس وقفا على عصر دون آخر، وأنه لا ينبغي أن يكون لأي تطور حضاري أو عرف زمني أي سلطان أو تغلب عليهما. وأما البند السادس: فقد أوضح فيه صلى الله عليه وسلم ما ينبغي أن يكون عليه علاقة الحاكم أو الخليفة أو الرئيس مع الرعية أو الشعب، إنها علاقة السمع والطاعة من الشعب للحاكم مهما كان نسبه وشأنه ومظهره، مادام يحكم بكتاب الله وسنة رسوله، فإذا حاد عنهما فلا سمع ولا طاعة، فلا مناط لولاء الحاكم وضرورة اتباعه إلا سيره على نهج الكتاب والسنة، وليكن بعد ذلك إن شاء عبدا حبشيا مجدعا، فلا يخفضه ذلك قيد شعرة عن غيره عند الله تعالى. ولقد أوضح لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا، أنه لا امتياز للحاكم من وراء حدود كتاب الله تعالى وسنة نبيه، ولا يمكن لحاكميته أن ترفعه قيد شعرة فوق مستوى المنهج والحكم الإسلامي، إذ هو في الحقيقة ليس بحاكم ولا يتمتع بأي حاكمية حقيقية، ولكنه أمين من قِبَل المسلمين على تنفيذ حكم الله تعالى. ومن هنا لم تتعرف الشريعة الإسلامية على شيء مما يسمى بالحصانة أو الامتيازات لطبقة ما بين المسلمين في شئون الحكم أو القانون والقضاء. وفي الختام... يُشعر رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه أخرج مسئولية الدعوة وتبليغها عن عنقه، فها هو الإسلام قد انتشر، وها هي ضلالات الجاهلية والشرك قد تبددت، وها هي أحكام الشريعة الإلهية قد بلغت، وها هو الوحي ينزل عليه صلى الله عليه وسلم يقول الله تعالى مخاطبا البشر كلهم: (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا) ولكنه صلى الله عليه وسلم يريد أن يطمئن إلى شهادة أمته بذلك أمام الله تعالى يوم القيامة عندما يُسألون.. فأعقب توصياته هذه لهم بأن نادى فيهم قائلا: إنكم ستُسألون عني، فما أنتم قائلون؟ وارتفعت الأصوات من حوله تصرخ: نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت. وحينئذ اطمأن الرسول العظيم صلى الله عليه وسلم!... لقد كان يريد أن يستوثق من هذه الشهادة التي سيلقى بها وجه ربه عز وجل.. ولقد اطمأن الحبيب الأعظم صلى الله عليه وسلم إذ ذاك، وشعشع الرضى في عينيه، ونظر بهما إلى الأعلى مشيرا بسبابته إلى السماء ثم إلى الناس يقول: اللهم اشهد...اللهم اشهد...اللهم اشهد وما أعظمها من سعادة!؟.. سعادة رسول الله عليه الصلاة والسلام بشبابه الذي أبلاه وعمره الذي أمضاه في سبيل نشر شريعة ربه جل جلاله، وذلك حينما ينظر فيرى حصيلة الجهد الذي قدم والعمر الذي بذل، أصواتا ترتفع وتعج بتوحيد الله، وجباها تعنو ساجدة لدين الله، وقلوبا خفاقة تجيش بحب الله. ألا ما أسعد حبيب الله إذ ذاك بذكرى ما لقيه من ظمأ الهواجر، وشتات السفر في القفار، وعذاب السخرية والإيذاء، في سبيل هذا الإيمان الذي شاده فوق أرض الله!.. فلتكتحل به عيناك يا سيدي سعادة وسرورا، وليبارك لك ربك في وجيب قلبك اليوم حمدا ونشوة وحبورا. ولا والله، ما كان ذلك شهادة تلك الآلاف المحتشدة من حولك فحسب، يا سيدي رسول الله، ولكنها شهادة المسلمين في كل جيل وعصر إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، تعلن بلسان حالها ومقالها: نشهد يا رسول الله أنك قد بلغت وأديت ونصحت، فجزاك الله عنا خير ما جوزي نبي عن أمته. ولكن مسئولية الدعوة قد انتقلت من بعدك إلى أعناقنا، وما أبعدنا اليوم عن القيام بحقها، وما أشد خيبتنا بقلائك يا سيدي غدا، وإن علينا أوزارا من التقاعس والتكاسل والركون إلى زهرة الحياة الدنيا، بينما يلتف من حولك أصحابك البررة الكرام، وإن في أيديهم وعلى أبدانهم شهادة الدم الذي سفكوه والجهد الذي بذلوه والدنيا التي حطموها تحت أقدامهم نصرة لشريعتك ودفاعا عن دعوتك وتأسيا بجهادك. أصلح الله حالنا وحال المسلمين جميعا، وأيقظنا من سكرة الدنيا ونشوة الشهوات والأهواء، وتغمدنا بلطفه وكرمه وجوده. آخر البعوث لا مفاضلة في حكم الإسلام إلا بالعمل الصالح: يقول الدكتور سعيد البوطي: لقد كان زيد بن حارثة رقيقا وهو والد أسامة هذا، وهو في أصله مولي، وكان أسامة كما قلنا فتى صغيرا بين الثامنة عشر والعشرين من العمر. ومع ذلك فلا الصغر ولا الرق القديم منع رسول الله صلى الله عليه وسلم من أن يجعله أميرا على عامة الصحابة في غزوة مهمة كبرى!.. ولئن وجد المنافقون في هذا مثارا للتعجب أو الاستنكار، فإن شريعة الإسلام لا تستغرب ذلك ولا تستنكره، فما جاء الإسلام إلا ليحطم مقاييس الجاهلية التي كانوا بها يتفاضلون ويتفاوتون. ولعل النبي صلى الله عليه وسلم وجد في أسامة ميزة جعلته أولى من غيره بقيادة الجيش في هذه الغزوة، وليس على المسلمين في هذه الحال إلا السمع والطاعة وإن أمر عليهم عبد حبشي، ولذلك كان أول عمل قام به أبو بكر رضي الله عنه في خلافته هو إنفاذ جيش أسامة، وخرج رضي الله عنه فشيع جيشه بنفسه ماشيا وأسامة راكب، فقال له أسامة: يا خليفة رسول الله، لتركبن أو لأنزلن. فقال أبو بكر: والله لا نزلت ولا ركبت، وما عليّ أن أغبر قدميَّ ساعة في سبيل الله؟ ولقد رجع أسامة رضي الله عنه من هذه الغزوة منصورا ظافرا، وكان في تسيير ذلك الجيش نفع عظيم للمسلمين. آخر يوم من حياته صلى الله عليه وسلم شعوره صلى الله عليه وسلم وهو يعاني سكرة الموت: يقول الدكتور سعيد رمضان البوطي: إنا لنستطيع أن ندرك شعوره وما كان قد انصرف إليه تفكيره وهمه في تلك الساعة، فقد رأينا أنه بينما كان الناس مصطفّين لصلاة فجر يوم الاثنين، إذا بالستر المضروب على حجرة عائشة رضي الله عنها قد كُشف، وبرز رسول الله صلى الله عليه وسلم من ورائه، فنظر إليهم وهم في صفوف الصلاة، ثم تبسم يضحك، حتى نكص أبو بكر على عقبه ليَصِلَ الصف، وكاد الناس أن يفتنوا في صلاتهم فرحا به صلى الله عليه وسلم، ولكنه أشار إليهم بيده أن أتموا صلاتكم، ثم دخل الحجرة وأرخى الستر. لقد كان تفكيره إذا منصرفا تلك الساعة إلى أمته، وإلى ما سيكون عليه حالهم من بعده.. وإنك لتشعر من نظرته الباسمة إلى أصحابه وهم يقفون خاشعين بين يدي الله تعالى، بمعنى الحب العظيم يفيض به فؤاد رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم، بل وإنك لتجد في ابتسامته مظهرا لما كان يخفق به قلبه من حبهم والدعاء لهم والتوجه إليهم. لقد أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم (بأبي هو وأمي) وهو يمر بآخر دقائق عمره أن يتزود من أصحابه رضوان الله عليهم بآخر نظرة، وأن يطمئن إلى الحق الذي تركهم عليه والهداية التي أرشدهم إليها..فأراه الله منهم ما طابت به نفسه وقرت له عينه، حتى غلب ذلك المشهد آلام الموت السارية في جسده فغلبها، وإذا بالبشر والسرور والرضا يطفح كل ذلك على وجهه، حتى خيل للصحابة أنه صلى الله عليه وسلم قد نشط من أوجاعه، وعوفي من آلامه. ولكنهم ما عرفوا إلا أخيرا أنه إنما وقف ينظر إليهم تلك النظرة لينقلب بها إلى سكرة الموت، وهي آخر لوحة تسجل في ذهنه لمشهد أصحابه، بل وأمته كلها، كي تكون هي العهد الباقي بينهم وبين الله عز وجل، ولتكون هي الهمزة الواصلة بين لحظة الوداع لأمته في الدنيا ولحظة الاستقبال لها في الآخرة على حوضه الموعود. ولقد شاءت حكمة الله أن يكون هذا المشهد هو الصلاة!.. وشاءت إرادة الله تعالى أن تكون هي العهد الأخير.. فيا أخي المسلم: العهد العهد الذي فارقك عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو راض يتبسم. الموضوع الأصلي: سيرة حياة النبي صلى الله عليه وسلم | | الكاتب: عبدالرحمن سعود | | المصدر: شبكة بني عبس
|
يتصفح الموضوع حالياً : 1 (0 عضو و 1 ضيف) | |
|
|
مواضيع مشابهة | ||||
الموضوع | الكاتب | القسم | الردود | آخر مشاركة |
دموع في حياة النبي صلً الله عليه وسلم | أنفاس الفجر | المنتدى الإسلامـــي | 3 | 20-04-2013 01:48 AM |
:: سيرة النبي :: { صلى الله عليه وسلم } | شاعر عيونك | المنتدى الإسلامـــي | 95 | 03-06-2011 08:29 AM |
دموع في حياة النبي صلى الله عليه وسلم | احساس الشمال | المنتدى الإسلامـــي | 8 | 20-04-2011 10:41 PM |
سيرة النبي صلى الله عليه وسلم ..بكل لغات العالم ..!!<<ارجو التثبية | رشيديه و أفتخر* | المنتدى الإسلامـــي | 12 | 04-12-2009 09:22 PM |
سنن من سنن النبي صلى الله عليه وسلم... | المواعيدالقديمه | المنتدى الإسلامـــي | 9 | 14-09-2009 08:08 AM |