|
خيارات الموضوع |
|
مفهوم الحب عند الــرافعــــي
ياسر عبد الرحيم الحب علاقة بين كائنين معرفيين؛ فالمرأة والرجل لا بد منهما لكون الحب، ويمكن للإنسان أن ينسجم في واقعه الاجتماعي الحياتي مع تفكيره النظري، إن كان الأمر لا يتعلق بأحد، أما في تجربة الحب فلا يستطيع فعل ذلك، لأن الحب يقتضي وجود طرف آخر يقبله وينسجم مع الطرف الأول. ومن هنا يمكن أن نميز بين تصورين اثنين في مفهوم الحب عند الرافعي: الأول تصور نظري فلسفي يعتمد على موقف معرفي من الحياة والكون، والثاني تصور يعبر عن تجربته الذاتية في الحب ضمن واقعه الاجتماعي المعيش، وإن كان الرافعي لم يفصل بين الجانب الفلسفي النظري والجانب الذاتي العملي في سياق حديثه عن الحب. 1-طبيعة الحب والمحبوب: يقترب الحب عند الرافعي من العبادة(1)، فقوته لا تقل عن قوة الإيمان إلا قليلاً، والفرق بينهما أن الخطوة قصيرة إلى القلب طويلة إلى السماء(2)، فالحب يجعل كلَّ سهلٍ واضحٍ في الأشياء غامضاً معقداً في النفس، وهذا هو سرّه، وبهذا يرتفع بالإنسانية، ويجنح إلى التألّه ((وبسرّه وتألهه يخلق كل ما يمسه في صورة ثانية مع صورته التي تقوم به، فيجعله بصورتيه من الكون ومن النفس العاشقة أيضاً، وليس من شيء خلق مرتين، ولكن أشياء الحب كلها كذلك، خلق ثم خلق))(3). ((والحب قدرة إنسان على قلب إنسان، فهو من ثم قدرة على الكون المتصل بالعاشق، وهو بهذه القدرة أشبه بألوهية لو ساغ في الظن أن توجد ألوهية عاجزة عن كل شيء إلا عن التصرف في مخلوق واحد))(4). إن هذا التنظير ينسجم مع مفهوم الإنسان في الفكر العربي الإسلامي الذي يغلب الجوهر على العرض، فالحب يتأله، وهذا التأله يدفع الإنسان نحو الكمال الذي هو كنهه، ويكون ذلك بالتحرر من الجسد الترابي للوصول إلى المعرفة الجمالية التي تصل بصاحبها إلى الحقائق الجمالية لمفردات الكون المتصل بالعاشق، لأن العاشق بالأصل جزء من الكون، ومن ثم تكون الألوهية التي عناها الرافعي ألوهية تأثير بين شخصين فقط للعودة إلى الجوهر الأول. وهذا ما يدل على أن الرافعي يعطي الإنسان بعداً معرفياً فلسفياً عن طريق القوى الإلهية الكامنة فيه، تبعاً لعقيدته الدينية. وللحب عند الرافعي مفهوم متعال قريب من الفكر الصوفي، يجعل المحب يرى في حبيبته خيال ملك، و ((في عينيها صفاء الشريعة السماوية، وفي خديها توقد الفكر الإلهي العظيم، وعلى شفتيها احمرار الشفق الذي يخيل للعاشق دائماً أن شمس روحه تكاد تمسي)). فتصبح المحبوبة مصدر قوة للمحب، فيطيعها كأنها إرادته، ويستند إليها كأنها قوته، ويعيش بها كأنها روحه ((فذلك هو الذي يشعر بحقيقة الحب، ويفهم معناه السماوي، وهو الذي يقول لك صادقاً مصدوقاً: إن كل لفظة من لغة الطبيعة في تفسير معنى الحب كأنها صلصلة الملك الذي يفاجأ الأنبياء بالوحي في أول العهد بالرسالة))(5). فلغة الحب وحي سماوي، والحبيبة تمثال الفن الإلهي الخالد، وفي هذا ينحو الرافعي منحى فلسفياً في فهم الحب يجسد ارتقاء بتجربته في الواقع، فالحب -عنده- عقلي يقترب من مفهوم ابن سينا، الذي يرى أن حب الصورة المليحة باعتبار عقلي هو الوسيلة إلى الرفعة والزيادة في الخيرية، ولذلك لا يكاد أحد من أهل الفطنة والحكماء يوجد خالياً عن شغل قلبه بصورة حسنة إنسانية(6). والرافعي يصرح بتأثره بابن سينا إذ يقول في مقدمة كتاب "أوراق الورد": ((... ورسائل أوراق الورد هذه تطارحها شاعر فيلسوف روحاني، وشاعرة فيلسوفة روحانية، كلاهما يحب صاحبه- كما يقول الفيلسوف ابن سينا- باعتبار عقلي...))(7). ويرقى الرافعي بالحب حتى يجعل منه قريباً من النبوة، إذ لما كانت لغة الحب وحياً سماوياً، كأنها صلصة الملك الذي يفاجأ الأنبياء أول العهد بالرسالة، كانت النبوة -عنده- نبوتين: كبيرة وصغيرة، وعامة وخاصة، ((فإحداهما بالنفس العظيمة في الأنبياء، والأخرى بالقلب الرقيق في العاشق...))(8). فالعاشق نبوة صغيرة، والحب قريب من العبادة، ما دام هذا الحب هو تجلي نفس في نفس، وما أشبه الحب ((بدين يعبد فيه الجسم الجسم، فالمعشوق حالة نفسية متألهة معبودة، والعاشق حالة أخرى متولهة عابدة!))(9). والرافعي يخالف القائلين بنفي الوصول إلى مرتبة النبوة اكتساباً(10)، ولعل مرد ذلك إلى طموح الرافعي بالوصول إلى النبوة، فكما جعل العاشق نبوة صغيرة، جعل الشاعر والأديب(11) بمرتبة النبوة، ورأى أن نبوة الشاعر نبوة جمال(12). إن طبيعة الحب هذه وجعلها قريبة من النبوة ترجح أن الرافعي كان يريد إدراك الحب الإلهي، ولعله يرى في جمال المرأة رمزاً للوصول للجمال الإلهي. فهو ما يفتأ يردد تأله الحب، ويتكلم على سره العجيب الذي لا يمكن إدراكـه(13). ولعل ما يرجح ما قلناه هو أن المرأة بالنسبة إليه هي الروح الخارجة عن المحب، جعلتها القدرة الإلهية يراها بعد ضياع، وتحاول هذه الروح الدخول في نفس المحب من غير أن تتمكن من ذلك، ويراها المحب روحه الخارجة عنه، ويحاول ردها إليه، ولكنه لا يستطيع، لأنها جسم آخر، ولا بد من أن تكون فيـه(14). وطبيعة الحب عند الرافعي تجعل المرأة كائناً إلهياً لا تتحقق العبودية من غيره، فالمرأة صورة سماوية إلهية تجسد الفن الإلهي الخالد، والعبودية لله وحده، إنما هي فكر الروح في مبدئها واتصالها به، وإن كان في الأرض عبودية شريفة فهي للحب وحده ((والعبودية للحب الصحيح مبدأ العبودية الصحيحة لله))(15). وهكذا تصبح العبودية للمرأة المحبوبة أول الطريق إلى الله، وكأن المحبوبة كائن إلهي فوق الرجل، وكأن الرافعي يصور نفسه في هذا الكلام، ذلك أن كتب الحب التي ألفها كانت، في أغلب الأحيان من وحي امرأة جمعته بها جلسة أو جلستان، ثم يكون الانقطاع، فالمرأة مصدر إلهام، ومحرض جمالي يصوغه عقله ويجعله فوق المادة ويكشف عن صلته بالله . فالمحب مع محبوبه دائماً، لأنه في ذاته يراه أينما توجه، ويبصره دائماً أمام عينيه وكأنه محدود به، يقول: ((فلو أنني طفت العالم كله لرأيته من حولي أينما كنت، وأبصرت وجهك دائماً أمام عيني، كأني محدود بك في حدود تدعك حيث أنت، وتمضي معي حيث أكون))(16). وقد اقترب الرافعي في كلامه هذا من معنى ابن الفارض في قوله(17): تراه إن غاب عني كلُّ جـــارحة... في كل معنى لطيف رائق بهج في نغمة العود والناي الرخـــيم... إذا تألّقَا بين ألحان من الهَزَجِ... لم أدر ماغربةُ الأوطان وهومعي... وخاطري أين كنّا غيرُ منزعج الحب عند الرافعي حب عقلي فلسفي، يبتعد عن المادية، وهو بذلك مصدر الإبداع الفني(18)، وهو طريق فهم الجمال الطبيعي، إذ يجعل المحب ينتقل من تأمل جمال المحبوب إلى تأمل جمال الطبيعة، فيدرك ما يحيط بالأشياء من جمال ينبثق في نفسه ((نور إلهي خالق يفيض على كل جمال في الأرض والسماء، ما يجعل هذا الجمال من إدراكه أو حسه بسبب قريب))(19)، وتحيط نفسه العاشقة بجمال الخليقة ما دام في نفسه الحب، كما تحيط العين بالأفق، فتحويه ما دام في العين البصر. فالحب وسيلة لإبصار جمال الطبيعة ولإدراكه واتساع آفاقه في النفس، ذلك أن الحب محرض على التصاعد نحو الجمال الأمثل، ولا يكون الحب مادياً إلا في أسفل درجاته، ومن هنا فإن النظر الإنساني لا يمكن أن يعلو أو يتسامى إلا إذا أُلبس معناه الإلهي(20). إن الفكر الصوفي واضح فيما سبق، فكثيراً ما أفضى الحب إلى التأله، ذلك أن الحب الصحيح من الأمور التي توصل إلى الله ، يقول الرافعي: ((والذي قدر عليه الحب لا يكون قد أحب غيره أكثر مما قد تعلم كيف ينسى نفسه في غيره، وهذا كما هي أعلى درجات الحب، فهي أعلى مراتب الإحسان))(21). فالحب أعلى مراتب الإحسان، والإحسان كما في الحديث الشريف: [... أَنْ تَعْبُدَ اللهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ](22)، فلربما عنى هنا محبة الله، ذلك أن الحب الصادق من شأنه تطهير النفس، حيث يكون بادئ الأمر فكرياً خالصاً، ثم يتحول إلى التطهير الأخلاقي، ثم تتحول هذه الفكرة عبر التأمل والانعزال إلى التوحد بالمحب والعبودية له، وهي مرحلة من طبيعة الحب، كما هي من طبيعة الدين، وهذا ما يجعل الحبيبة -كما يرى الرافعي- تحيط بروح العاشق من ثلاث وجهات ((ولم يبق لهذا العاشق سوى الجهة التي تتصل روحه منها بيد الله ))(23). ويرى الرافعي أن الجمال ما هو إلا وسيلة إلى إدراك الجوهر، فإذا تعلق المحب بجمال الحبيبة، من غير أن يرى خصائص روحها، فما هذا بحب، ولو ذهبت بجمالها هذا بعقول الناس، وكانت في النساء كليلة البدر. فلا يمكن أن يسمى حباً تعلق الإنسان بما يراه من لون وشكل وتركيب وتناسق وغيرها مما يظهر البشرية على أتمها وأحسنها في الشخص المحبوب، كما يظن الناس خطأ، وما الحب إلا التعلق بخصائص روح المحبوب وحده، فيبدو شخص المحبوب كأنه تمثال سماوي حامل لروح ذلك العاشق(24). إن سر حيرة العاشق حين تفتنه من يهواها يكون في اتصال المحبوبة بموضع السر من روحه(25)، وربما خفيت المناسبة بين المحبين، لوجود شخصين متحابين لا مشاركة بينهما في وصف جمال ولا إحسان، ولكن في أمر خفي، وكذلك المناسبة بين الألحان الموسيقية وبين النفوس ((ذات ارتياض السمع، فيؤثر فيها عشقاً ونفرة، بحيث تحار الأذهان في علته))(26)، وهذا الحب إن تمكن من العاشق يستلذ عندها هذه الحال، ولا يمر المحب إلا في روح وريحان على طريق لذة النفس التي لا تنتهي، ويغدو المحب كأنه في تلك ((اللذات الروحية طفل لا يكبر ما دام في عمر الحب))(27). إن الرافعي فيما سبق، لا يتكلم على لذة الحب بمعناها المادي (العَرَض)، وإنما بمعناها الروحي (الجَوْهر). ويمكن أن نطلق عليها تسمية السعادة، لأن اللذة من متطلبات الجسد (العَرَض)، على حين أن السعادة من متطلبات الروح (الجَوْهر)، واللذة فانية، بينما السعادة باقية لأنها إلهية. وكأن الرافعي وضعنا أمام عالم سحري مثالي عبر هذه الطفولة في الحب، التي تهدم العرض، وتعلي الجوهر، وتساعد الإنسان في العودة إلى مصدره الذي لا يفتأ يحنّ إليه، ذلك أن ((الحقيقة الكبرى لهذا الجمال الأزلي الذي يملأ العالم قد جعلت حنين العشق في قلب الإنسان هو أول أمثلتها العملية في تعليمه الحنين إليها، إن شاء أن يتعلم))(28)، فالمحبة الإنسانية وسيلة إلى المحبة الإلهية(29)، ((فكما يحب إنسان بروح الشهوة، يحب إنسان آخر بروح العبادة، وهذا هو الذي يسميه الفلاسفة (تلطيف السر) أي جعله مستعداً للتوجه إلى النور والحق والخير، وقد عدّوا فيما يعين عليه الفكر الدقيق والعشق العنيف))(30). وهذا الحنين والتشوق لا يكون إلا من النفوس الصافية الذكية إلى العالم الإلهي، الذي هو كل جمال وكمال ونور وإدراك وإشراق وبهجة ولذة باقية(31). والرافعي يذكرنا بموقف لسان الدين بن الخطيب الذي يرى أن المحبة البشرية يمكن أن تقترب من المحبة الإلهية إذا خلت من الشهوات، وهذه المحبة ((هي مناسبة الجمال الجزئي للجمال الكلي، ومن هذا الباب رشح حب الصور وعشق الحادث للحادث فما كان منه غير مقرون بالشهوات كان أمره أقرب، وإن كان من القواطع للنفوس، فربما كان سلّماً للحب الحقيقي الموصل للسعادة، وما كان مقروناً بالشهوات فلا كلام فيه))(32). وتفريق الرافعي في النص السابق بين روح الشهوة وروح العبادة، دليل على تأثره بالتصوف، فيقرر أن محبة الشهوة لا ترقى إلى درجة الحب، مجارياً بذلك لسان الدين بن الخطيب وابن حزم الأندلسي(33). وبدا الرافعي متأثراً في النص ذاته بقول لسان الدين بن الخطيب: ((وسبيل السعادة عندهم [الحكماء] الرياضة وعلاج الأخلاق، حتى يصير شبيهاً بالخير المحض وهو المبدأ، وتلطيف السر، وأن تصرف عن النفس شواغل الجسم، ويترقى في معارج المحبة والشوق إلى ذلك الكمال بالفكرة، حتى تحس النفس بانجذابها إلى عالمها، وتفيض عليها عجائبه...))(34). الحب عند الرافعي موقف فكري صوفي، وهو طريق إلى الله عبر الجمال، فكل لذة الحب وأروع ما في سحره أنه لا يدعنا نحيا فيما حولنا من العالم، بل في شخص جميل ليس فيه إلا معاني أنفسنا الجميلة وحدها، ومن ثم يصلنا العشق من جمال الحبيب بجمال الكون، وينشئ لنا في هذا العمر الإنساني المحدود ساعات إلهية خالدة تشعر المحب أن في نفسه القوة المالئة لهذا الكون على سعته ((فتمرّ النفس حينئذ في سبحات اللذة الروحية، من الجميل، إلى الجمال، إلى الطبيعة، إلى الله جل جلاله))(35). 2-أزلية الحب: يرتبط الحب عند الرافعي بالأزل، فالحب من علائق النفس، والنفس أزلية، لأنها بحسب الفكر العربي الإسلامي من النفخة الإلهية. وليس الحب وليد الحياة الإنسانية، وإنما هو أزلي ولد في عالم الذر، وما للأرواح في ذلك من أمرها خيار أن تحب أو لا، فقد كانت الأرواح عاشقة في الأزل، وعندما نزلت إلى عالم المادة وعاشت في الجسد الترابي، فإنها تبحث عن إلفها الذي أحبته، فإذا ما حصل التعارف وقع الحب ((متخذاً من الشكل المحبوب وسيلته، فلا يكون أكمل ولا أجمل عند كل عاشق من معشوقه، إذ هو ليس إلا الصورة التي تتراءى فيها خصائص الجمال العلوي للخصائص التي في روح العاشق وطباعه، فتتصل بها من الجهة التي تنفذ منها إلى خالصة قلبه وداخلة روحه))(36). وفكرة الرافعي هذه مستمدة من الفكر العربي الإسلامي، فهي ترى أن النفس في أصل نشأتها جزء من الأزل، ولا بد لها من معاني النور الإلهي الذي صدرت عنه، والذي يتمثل في الوجه الجميل ليضيء أعماقها، فيذكرنا بما كان لها قبل صدورها. فالحسن المعشوق يذكر العاشق المدنف بالنور الأزلي، ويكشف له عنه، ويجعله يبحث في الأرض عما ليس فيها، فيرى العالم صغيراً، ويرى أن ساعة الحب تكمن خارج الحياة، أو أنها هي الحياة، فهو بالحب كائن فيما حوله، وما حوله كائن فيه(37). فيصبح العاشق موجوداً بالعشق، ومتألهاً بالمعشوق. ويفسر الرافعي سرّ جاذبية الجميل تفسيراً كونياً يستفيد فيه من الفيزياء، فيرى أنه جزء من القوة السماوية، وهذا الجزء هو سر الجمال، فسر الجمال ليس في التناسق أو التناسب أو ما أشبه ذلك، مما يدل على صورة حسية. وإنما هو في أن الله حين يبدع الجميل يرسل في دمه ذرة من مادة الكواكب التي هي سر عشقه، وجاذبيته، ومعنى قوته التي يتسلط بها على عاشقه، ويبث في دمه النار، ويخضع بهذه القوة لحبيبه في الوقت نفسه. ودلال الجميل المعشوق هو اضطراب تلك الذرة التي تتحرك فتجعل الجميل يتلألأ بالنور من كل جهاته، وتضع فيه معنى خيالياً. أما عاقبة مصادمة الحبيب فكعاقبة اصطدام الأرض ببعض الكواكب، تتحطم دون أن تعطل قوة الجـذب التي للكــواكب(38). إن الرافعي يسير سير ابن حزم، فالحب لا يتعلق في رأي ابن حزم إلا بالتمازج المذكور، ولو كان علة الحب حسن الصورة الجسدية، لوجب أن لا يستحسن ((الأنقص من الصور، ونحن نجد كثيراً ممن يؤثر الأدنى ويعلم فضل غيره، ولا يجد محيداً لقلبه عنه، ولو كان للموافقة في الأخلاق لما أحب المرء من لا يـساعده ولا يوافقه، فعــنا أنه شيء في ذات النــفس))(39). وأما العلة في كون النفس تولع بصورة حسنة، فهذا إنما هو من جهة الشهوة، وليس من جهة الحب، لأن النفس إذا ظفرت بما يشاكلها ويماثلها لم تبال بصورته، ولم تهتم بعرَضه(40)، فالحب لا يتصل بالجسد ولا يحفل بلذاته بل يتصل بالروح، فمحبة الشهوة لا ترقى إلى درجة الحب. وهذا ما يجعل من الحب مسألة تستعصي أسبابها على الفهم، والرافعي على الرغم من تأسيسه الحب على توافق الطباع، وتأكيده على طبيعة الجمال الأزلية وجاذبيته الكونية، لا يستطيع أن يحدد أسباب هذا الحب، ولا الخصال التي تجعله يحنّ إليها في المحبوب، فهو يحبها كما هي(41). فهذا القلب لا يمكن أن يتحرك إلا بإرادة القدر، كما يرى الرافعي، وما أحكم الناس إذ يقولون في بعض حوادث الحريق ((إنها وقعت قضاء وقدراً، فكل حريق القلوب لا يقع إلا هكذا))(42). ولكن إذا كان الرافعي يؤكد على أزلية الحب، وتوافق المزاج والطباع والتركيب، أفلا يقع الحب دون أن يكون للمحبوب ميل للمحب؟ يرى الرافعي أن قوة الجذب التي في الحبيب لا تؤثر في كل إنسان، بل إن لكل جميل فكاً لا تعدوه قوة جذبه، وهذه القوة تبطل بفعل مواد مختلفة من ثقل الأرض تدافع الجاذبية التي في السماء، فتبطلها أو تضعفها ((ذلك بأن الله قد سلط على هذه الأرواح السماوية مواد مختلفة من ثقل الأرض لا تبرح تدافع تلك المادة من جاذبية السماء، فإما أبطلتها، وإما كسرت من حدتها، وإما أضعفتها، وإما طمست عليها))(43). ونجد عند ابن حزم تفسيراً يقترب جداً من رأي الرافعي، فهو يرى أن هذا الأمر يتعلق بطبيعة الحياة الدنيا (العالم الأدنى)، فتكون هذه الروح قد أحاطت بها الطبائع الأرضية، فحجبت كثيراً من صفات الناس التي تتمتع بها في حقيقة أمرها. يقول ابن حزم: ((... نفس الذي لا يحب من يحبه مكتنفة الجهات ببعض الأعراض الساترة، والحجب المحيطة من الطبائع الأرضية، تحسُّ بالجزء الذي كان متصلاً بها قبل حلولها حيث هي، ولو تخلصت لاستويا في الاتصال والمحبة))(44). إن الحب عند ابن حزم والرافعي نابع من التمازج بين النفوس المتحابّة، فالحب منشؤه اتصال النفوس التي كانت من أصل واحد، وسببه التمازج بين النفسين المتحابين. أما الكره فيرجع إلى التباين بينهما، فسر التمازج والتباين في المخلوقات ((إنما هو الاتصال والانفصال والشكل دأباً يستدعي شكله والمثل إلى مثله ساكن))(45). إن قوة الجذب في الحبيب لا تؤثر في كل إنسان، فلكل جميل فلك لا تعدوه قوة جذبه، ولا تؤثر إلا في من هم من الفلك نفسه، وإلا فسدت الأرض وأصبح الجنسان كحجري الطاحون، لا عمل للأعلى إلا أن يطحن الأسفل، وأما ما يجعل الحبيبين في فلك واحد فهو القدر(46)، فالحب خارج عن إرادة الإنسان وطاقته وفكره. وقد يتخذ الحب عند الرافعي معنى عقلياً، فالمرأة تولد مرتين: الأولى حين تنحدر إلى الدنيا طفلة، والثانية حين تبلغ مبلغها وتنبعث ملء شبابها فيأني لها أن تولد ولادتها الثانية، لكن في قلب رجل. فالولادة الأولى أول وجودها، والولادة الثانية أول فنائها، لأن المرأة متى احتلت مكانها في قلب الرجل جعل يفنيها معنى في كل معنى، حتى تفرغ فلا يبقى منها إلا ذكرى زمن مضى، فهي على هذا معجزة عقلية ما دامت مخبوءة في إشعاع جمالها السماوي الذي يفعل فعله في الأديان والعقائد، وما أنزل منزلة الأديان والعقائد(47). والملاحظ أن كلام الرافعي هنا على الرجل وليس على المرأة، لأن المرأة كما تبدو في فكر الرافعي، تولد بفضل محبة الرجل، الذي يسير في طريق الوصول إلى المحبة الإلهية، وتفنى المرأة من حياته باعتبارها وسيلة لذلك، ويكون فناؤها الأول فناء مادياً عرضياً؛ وبذا يكون كمالها حتى تعود إلى جوهرها الإلهي. 3-الطفولة والحب: يقيم الرافعي مشابهة بين الحب والطفولة، فكلاهما يشتركان في البراءة والحرية، والحب عودة إلى الطفولة، وما تمثله من شفافية بعد أن غلب في الإنسان العرض على الجوهر، فالطفل يتصرف كما يحلو له من غير عوائق القوانين الاجتماعية، وهو يريد اللهو والعبث، وكذلك المحب(48). وعلاقة الحب بالطفولة تقوم على مماثلة أخرى، فالمحب هو طفل يجد في محبوبته ما يجده الطفل في أمه، فكما يتعلق الطفل بأمه وجودياً يتعلق المحب بمحبوبته، لأنها كالأم سبب الوجود، إلا أنه وجود يختلف في المستوى. وكما أن الطفل وليد أمه فالمحب وليد محبوبته يقهر على اختيارها، وتكون هذه الطفولة في الحب ستاراً بينه وبين ما عداه، يحصره في امرأة واحدة دون غيرها من النساء، يقول: ((أفلا يكفي هذا دليلاً على بلاهة العاشق وغرارته، وأن الحب كالانتكاس إلى الطفولة في جهة واحدة من جـهات النـفس؟))(49). أما كيف يقهر المحب على اختيار محبوبته فيكون ذلك من خلال الجاذبية، فالمحب لا يختار، وإنما لكل جميل فلك لا تعدوه قوة جذبه، ولا يؤثر إلا فيمن هم من الفلك نفسه، لأن قوة الجذب الـتي في الحبــيب لا تؤثر في كل إنســان(50). إن المحب إذا ما فاجأه الحب رجع طفلاً صغيراً لا يدري كيف يميز، لأنه غير مؤهل لهذا! فهو لا يبالي إلا بما عرف في عهده الأول من تحني المرأة عليه وانعطافها له، ورجع إلى عصره النسائي ((فترى الدنيا بما وسعت لا تعدل في عينيه الصدر الجميل الذي يترامى عليه، وتموت المطامع فيه، وترجع كلها إلى محصول واحد من ذلك الفم الذي يحبه، وتعود لغة الحياة عنده كلغتها الأولى في إشارة أو كلمة أو ابتسامة أو قبلة))(51). وقد ربط الرافعي بين هذه الطفولة والحب الصحيح، فلم ((يكن الحب الصحيح في أسمى مظاهره إلا حب المرأة لبني بطنها، وإنما يسمى غرام العاشقين حباً، لأن في العاشق دائماً مع حبيبته أصغر معاني الأمومة))(52)، وألذ معاني الجمال والحب هو الذي يمر بالإنسان في روح وريحان على طريق من لذة النفس التي لا تنتهي، فهذه اللذة من حيث لا نعرف إلى حيث لا نعرف، ويغدو الإنسان وكأنه في تلك اللذات الروحية طفل لا يكبر ما دام في عمر الحب، يقول: ((والحب الروحي الصحيح إنما هو كالطفولة لا تعرف وجه الفتى إلا شبيهاً بوجه الفتاة، فيه تذكير وتأنيث، بل حالة متشابهة كاخضرار الشجر تبعث عليها الحياة حين لا يجيء الحس فيها إلا من جهة القلب))(53). ويوحد الرافعي بين حب الابن لأمه، وحب العاشق لحبيبته، فلا يرى بينهما فرقاً إلا في المستوى؛ بمعنى أن العشق هو تقدم عاطفة الابن نحو الأم تقدمها في السن والقيمة والعقل، وهو انتقال من حقيقة الحياة بمعانيها الواقعية إلى ((الحياة بشعرها ومجازها ومعانيها الخيالية الجميلة))(54). وقد ذهب مصطفى الجوزو إلى أن الرافعي مصاب بعقدة أوديب(55)، التي ذكرها فرويد(56)، مستنداً إلى نص ذكره العريان يوحي بتأعلق الرافعي الشديد بأمه(57)، وما ذكره الرافعي عن المقارنة بين الأم والمحبوبة. ونرى هذا أمراً بعيداً، وهو من إسقاطات المنهج الفرويدي على الأدب، فليس الذي أتى به فرويد وأتباعه حقيقة علمية مسلماً بها، فنحن في مجتمع يختلف جذرياً عن مجتمع فرويد وأتباعه، ويمكن تفسير هذا التعلق على أنه التزام بأوامر الشرائع الدينية التي تأمر ببرّ الوالدين. 4-الحب والإبداع: إن العلاقة بين الحب والإبداع جعلت الحب في رأيه جنوناً يخرج منه العقل الكامل، يقول: "ألا زدني ثم زدني، فإن ليلك الحزين قد تفجر لك بصبح من تلك الشمس، وإن قلمك ليجمع أشعة النجوم، ويصور منها ذلك القمر، وإنك لأنت المحب الذي يخرج من جنونه العقل الكامل، ولئن كانت تلك الحبيبة قد اختلجت نفسها من يدك فما ذلك إلا لأنها مَلَكٌ مدّ إليك جناحه وأمكنك منه، ثم انفلت ليدع في يدك الريشة السماوية التي تصوره بها"(58). والحبيب- في رأيه- يتجسد في اللغة والصورة الفنية، ولا يكون له وجود خارجهما، يقول: "والحبيب قد يتحول إلى كلمة أو قبلة أو معنى من المعاني إذا أراد محبه أن ينقله معه إلى أي مكان، وهو باق في مكانه؛ الكلمة والقبلة والمعنى: هذه هي الجهات الثلاث التي تنفذ منها النفس إلى أحبابها حين يخفيهم الغمام الفاصل بين الحياة والحياة إذا ابتعدوا أو هجروا، أو الغمام الضارب بين الحياة والموت إذا لحقوا بالأبد. أما الجهة الرابعة فحين تُفتح للمحب يُلقي جسمه ويصعد بروحه ويختفي هو فيها. ولعمري إني لأريد أن أنساها ثلاث مرات، لا مرة واحدة، ولكنها في ذكراي كأنها ثلاث نساء: واحدة في الرضا، وثانية في الغضب، وثالثة بين ذلك؛ واحدة في كلمة، وأخرى في قبلة، وثالثة في معنى من المعاني..."(59). فالحبيب يمكث حيث هو، لكن المحب ينقله في خياله، وينفذ إليه من خلال الكلمة والمعنى الذي يعبر عنه، لكن تبقى القبلة مثار تساؤل؟! فإذا كان هذا الانفصال بين وجود الحبيب ووجود الحبيبة قائماً، فكيف تكون القبلة؟ ربما في الوهم(60). ولنذكر أن الرافعي يتغزل برسم فوتوغرافي، حيث زعم أن الحبيبة قد أهدت إليه رسمها، وكتب لها رسالة "رسم الحبيبة"(61)، وكان يضع على مكتبه صورة ملكة جمال تركيا(62) آنذاك ويتغزل بها أيضاً، فربما كانت القبلة التي عناها الرافعي هي قبلة الصورة. ويرى الرافعي أن الحب وحده هو الناموس المطور للقوة المتخيلة، وكأنه أم تلد، فالمرأة تلد الإنسان، ولكن حبها يلد النابغة، ولقد خفف الله عن الإنسان قبح الحقيقة الواحدة، بأن أودع فيه قوة التخييل يستريح إليها من الحقائق (فإنْ ضجر أهل الخيال من الخيال، لم يصلحهم إلا الحب"(63). وتصوير الحب الصحيح في قلب الإنسان هو حاجة الطبيعة الوحيدة إلى التـصوير(64). وقد ربط الرافعي الحب بالفن، فإلقاء الحب الصحيح في قلب معناه إيماء الفن إلى صاحبه ليفهم الصورة الشعرية الجميلة التي يأخذ منها الحبيب جماله، فكل ما يجيء من الحبيب كأنه وزن من الأوزان، وكأن الشكل المحبوب لحن موسيقي يخلق إنساناً تتجاوب نفسه مع نفسه(65). بيد أن الشعر الذي يتكلم عليه الرافعي هنا ليس بالضرورة ذلك التعبير الأدبي الفني، بل هو رمز الجمال، ذلك أن الحب الصحيح إذا سلمت فيه أسباب المودة، واعتدلت الشهوات، واستوى فيه غياب الحبيب وحضوره "كان أشبه بقوة سماوية تعمل عملها لتبدع من الإنسانية شعراً أسمى من حقائقها، كما كانت الإنسانية نفسها قوة عملت أعمالها لتبدع من حقائق الطبيعة أخيلة أجمل من مادتها... ومن ثم فالحب كالطبيعة بين الإنسانية والإلهية"(66). 5-المرأة والحب: يظهر الرافعي في تناوله لموضوع المرأة بأسلوبين، الأول يتكلم فيه على المرأة الجميلة المعشوقة كلام إعجاب وتقديس يصل بها إلى ما فوق الجمال الإنساني ودون الصفة الإلهية، والثاني ينزل بها إلى المستوى الأرضي على أنها عنصر من عناصر المجتمع. هنا ينبغي أن نفصل بين حياته الفكرية، وبين حياته العملية، أو بين الجانب الفلسفي النظري في التعبير عن الحب، وبين تجربته الذاتية في الحب، ففي الحياة العملية لم يحقق الرافعي صورة المرأة التي طمح إليها، فظلت حلماً. والتناقض ليس في الجانب الفكري فيه، وإنما في الحياة العملية. وكأن الرافعي نظّر بفكره المثالي صورة المرأة وما يجب أن تكون عليه في الحقيقة، ثم لما عرض هذا على الواقع رأى أن الكلام النظري يسقط، ذلك أن المرأة الملهمة لم تكن مطابقة لفكره في تجربته الذاتية معها. إن المرأة- في رأيه- لن تصبح كائناً على الحقيقة إلا بفضل الحب الذي يعيد خلقها من جديد في قلب عاشقها، فإذا هي "وافقت منه الحب فقد تألّهت في قلب إنسان، وصار لها جنتها ونارها، ومضى منها الأمر وكأنها عند محبها تأسر بقوة قادرة على أن تحيي، وتنهى بقوة قادرة على أن تميت!"(67). فالرافعي يتحدث عن العلاقة الجدلية بين المحب والمحبوب، فالحب يعيد خلق المرأة، والمرأة تعيد خلق الرجل بالحب وتتأله في قلبه، ولفظ "تألهت" بحسب مفهوم الإنسان عند الرافعي تعني ظهور جوهرها الإلهي الكامن فيها عن طريق النفخة الإلهية. إن الحب يغير المرأة ويعيد تكوينها من جديد في قلب عاشقها، ولهذا لا تكون المرأة في عين عاشقها كغيرها من النساء "وإنما تخرجها له جملة من الصفات الغريبة التي فيها، لتقابل جملة أخرى من الصفات الغريبة التي فيه..."(68). وكل ما يصفها به العاشق من فنون الجمال ما هو إلا ما تتوهمه العين البشرية من جلال فوق الحسّ "ويريد الحسّ أن يصل إليه، كأن في العقائد الإنسانية معضلتين: ما وراء الطبيعة وما وراء الحبيبة..."(69). وقد أكّد الرافعي أن ما يذهل الإنسان من المرأة ليس فيها، ولكن في الرجل، فالعاشق كالذي ينحت صنماً من الحجر، ثم يصله بمكان الرغبة والرهبة من نفسه، فيمتلك هذا الحجر بعقل وقلب الرجل، فيتعبد بحقيقته لخياله، وبعقله لوهمه، وبعلمه لجهله، ولكن الحجر يبقى حجراً ما عبد، بيد أن الرجل لا يبقى رجلاً "وكذلك يصنع عاشق المرأة بالمرأة، وهي عند نفسه كأنما نبت جسمها على صنم معبود يحسب فيها السماء والجنة، وما فيها أكثر من امرأة، ويكون منها في الحب والرضا كحجر الألماس: يلقي عليه الضوء لوناً واحداً فيخرجه من قلبه ألواناً ذوات عدد في بريق وبصيص.."(70). إن ما سبق يؤكد أن الرجل- في رأي الرافعي- هو من يصنع المرأة المحبوبة، وهذا في الوقت نفسه تأكيد على الدور الأساسي للرجل في الحب، وأن المرأة منفعلة وليست فاعلة. فكيف نوفق بين هذه النصوص وبين ما قاله سابقاً عن الجاذبية؟... وما هو دور المرأة في الحب؟ هل هو امتلاك الجاذبية فقط، أم أن هذه الجاذبية لا يشعر بها إلا الرجل ولا دور للمرأة فيها؟ يبدو أن موقف الرافعي هذا من المرأة هو نتيجة معاناته الشخصية في الحب، فهذا الكلام ليس كلاماً نظرياً فلسفياً، ولكنه ناشئ عن تجربة ذاتية تعي الواقع، وتحاول تفسيره من جهتها فقط. بخلاف ما ذهب إليه في كلامه عن الجاذبية، فقد بدا كلامه تنظيراً فلسفياً للحب متوافقاً مع الفكر العربي الإسلامي الذي يغلب مفهوم الإله على مفهومي الإنسان والكون، باعتباره القوة التي تحرك الجاذبية وتبدع الجميل، وترسل في دمه ذرة من مادة الكواكب التي هي سر عشقه وجاذبيته، ومعنى قوته التي يتسلط بها على عاشقه(71). إن الرافعي حينما يتكلم على المحبة لا يتكلم على محبة المرأة للرجل، وإنما على محبة الرجل للمرأة، فالمرأة- في رأيه- تُسَرُّ حينما ترى محبها معذباً وبها صباً، وهي لا تكون حبيبته إلا إذا كانت معذبته، لتمحق المقاومة فيه، وتثبت المقاومة والكبرياء لأنوثتها(72). ومن أسباب عذاب الرجل بمحبوبه، هو أنَّ المرأة لا تبوح بحبها، فهي إذا أحبت لم يعرف أحد كيف تظهر هذا الحب "فربما آنست منها النفرة أو الإعراض أو البغض ملالة فما فوقها، ومع ذلك يكون هذا هو حبها الذي ابتليت بكتمانه أكثر مما ابتليت به"(73)، فقد تعذب محبوبها لتمحق المقاومة فيه، وقد تعذبه في بعض دلالها أشد من العذاب "وهي تحبه حباً ليس فيه مبالاة، وبذلك تجمع عليه الشبهة والحقيقة"(74). ومن هنا كان غموض الحب، فكأن المرأة بداية الغموض، وربما كان عدم فهم المرأة بسبب من طبيعتها، فليس من طبيعة المرأة البوح فإذا هي أحبت امتنعت أن تكون البادئة، فالتوت على صاحبها وهي عاشقة، وجاحدت وهي مقـرة(75). إن المرأة في نظر الرافعي تستلذ بتعذيب محبوبها، وتستلذ عندما تجالد في كتمان هذا الحب فتتحول مشاعر هذا الحب المؤلمة إلى لذة عندها، وكبرياء المرأة آت في أنها معشوقة وليست عاشقة، لأن هذا الكبرياء يسقط عندما لا تلقى استجابة من الرجل، وهي عنده وإن تكبرت فهي ساجدة لهذا الرجل، ولكنها تأبى الاعتراف، وإذا ما خرجت من فمها أية لفظة تعبر عن الشتم أو الأذى، فما هي إلا معنى من معاني الحب التي خصت المحبوب بها، يقول: "قد تشتمك من تحبها، لأنها تحبك وتعزك، ويأبى لها شعورها بكبرياء الحب إلا أن تنبذ لك بلفظة متكبرة، وهي قد وثقفت أنها تخصك منها بمعنى ما... تشتمك لتقول لك: إني أعلم أني أحبك أحبك، فإياك أن تظن أني أحبك"(76). إن الرافعي يُظهر إعجابه بذاته، ويريد جعل المرأة تابعة له، فإن لم يكن هذا في الواقع، فليكن في الحلم، لأنه انعكاس للواقع، وهو توهم ذاتي خاص به من تجربته الشخصية في الحب. يقول: "كم من عاشقة متكبرة على من تهواه تصده وتباعده، وهي في خلواتها ساجدة على أقدام خياله، تمرغ وجهها هنا وهنا على هذه القدم وعلى هذه القدم.."(77). ولئن غلبها الحب وأكرهها الوجد على أن تكون البادئة، ولم تجد من الرجل جواباً فإن هذا الابتداء يكون نهاية الحب، كما يرى الرافعي، وينقلب الحب عدو الحب(78). فسلاح المرأة هو الكتمان عن محبوبها، لأنها تخاف أن تفقد كرامتها، إذا لم تجد استجابة من الرجل. يقول الرافعي: "وأنا أعرف امرأة وضعتها كبرياؤها في مثل هذه الحالة، وقالت لصاحبها: سأتألم، ولكن لن أغلب! فكان الذي وقع- واأسفاه- أنها تألـمت حتى جنت، ولكن لم تغلب ...."(79). ترى أهذه إشارة خفية إلى ملهمته مي زيادة، التي دخلت المصحة بتهمة الجنون؟! ربما، وإذا صح هذا الظن فإن ما يقوله الرافعي عن حب المرأة وكتمانها هو من تأثير علاقته بمي، وهو ما يدل على أنه كان يتصور أنها تحبه، ولكنها كانت تخفي حبها له. إن صدّ المحبوب وعزوفه عن المحب ينتج عنه ألم الحب الذي يأتي على اللحم والدم، وهذا الألم لو تجسم لكان هو الذي يصهر الحديد في موج من لهب النار، ويحطم الصخرة في زلزلة من ضربات المعاول(80). وأوجاع المحب وأحزانه هي كآلام الفريسة وأوجاعها، كلاهما بالغ السلبية في الحبيبة والمفترس(81)، لأن الحب "قد ضرب بيننا وبين الحقائق بسور ظاهره فيه الرحمة، وباطنه من قبله العذاب"(82). وربما كان تصوير الرافعي لهذا العذاب إفصاحاً عن ألم دفين، وربما كان هذا ألم الصمم. وكما كان الحب(في رأيه) جزءاً من النبوة، والحب في مرتبة النبوة الصغيرة، كذلك كان عذاب الحب ناراً أو جنة صغيرة، يقول: "ولا شيء في الدنيا غير الحب يستطيع أن ينقل إلى الدنيا ناراً صغيرة وجنة صغيرة، بقدر ما يكفي عذاب نفس واحـدة أو نعـيمها! وهذه حالة فوق البـشرية....."(83) ذلك أن عذاب الحب إن اشتد فهو موت، بيد أن هذا الموت "لا ينقل من الدنيا إلى الآخرة، بل من نصف الدنيا إلى نصفها الآخر..."(84). وعلى هذا فلا يمكن للإنسان أن يجمع بين همّ الحب وهمّ الحياة(85)، وربما كان همُّ الحياة الذي عناه الرافعي فرعاً عن هم الحياة. لكنْ ألا نلمح في مفهوم الرافعي للحب نوعاً من تعذيب النفس؟ ربما اتخذ من آلام الحب وعذابه سبيلاً للوصول إلى هدف ما، ولعل هذا الهدف الذي تأمل من أجله الكون وعبر عن مفهومه للحب وفلسفته الألم والعذاب، كان الوصول إلى معنى الألوهية، لذا جعل المحب في مرتبة النبوة الصغيرة، وجعل الحب كالجنة والنار، أو ربما هدفه معرفة نفسه، ومن ثم معرفة خالق الكون. إن الحب الصحيح في رأيه لا يكون إلا عذاباً، يقول: "كلمة الحب الصحيح الذي قول للمبتلى به: تعذب لتعرف كيف تتخيل السعادة وتتمناها، كذلك تراني لا أحب إلا لثلاث: لأعرف وأحسَّ وأتخيل، ولا أهلك بالحب إلا لثلاث: لأوجد في نفسي، وأبقى في نفسي، وأضمُّ نفساً إلى نفسي"(86)، فهو يؤكد حاجته للمرأة ولإكمال نقصه، فالإنسان عندما يحب فإنه، في الحقيقة، يبحث عمن يعطيه الكمال، إنه يريد أن يوجد نفسه، وأن يبقى في نفسه، لأن في هذا البقاء استقراراً لنفسه وهدوءاً لعواطفه. وفي مكان آخر يرى أنه أحب ليتعذب، وتعذب ليتصل بمعنى نفسه، واتصل لينفذ منها إلى طرف من معنى الألوهية. وإن أردت الاختصار- كما يقول- قلت لك: "إنه أحب ليتأله"(87). إن مفهوم الحب عند الرافعي مفهوم عقلي فلسفي، وموقف فكري صوفي يبتعد عن المادية، ويقترب من العبادة والنبوة، وهو طريق يوصل إلى الله ومحبته عبر الجمال، وبذلك يجنح إلى التأله، وإذا انخفض قليلاً وقع في طبقة بين الإنسانية والإلهية. والمرأة المحبوبة تمثال الفن الإلهي، ومصدر إلهام، ومحرض جمالي، وهي كائن إلهي فوق الرجل توصل إلى معنى الألوهية، وتتأله في قلب عاشقها، وهي صورة سماوية إلهية تجسد الفن الإلهي الخالد. والحب الصحيح عودة إلى الطفولة، ونشوؤه معناه إيماء الفن؛ حيث يسمح بفهم الصورة الشعرية، ويطوِّر القوة المخيلة. والعلاقة بين الحب الإبداع جعلت الحب- في رأي الرافعي- جنوناً يخرج منه العقل الكامل. لكن هذا المفهوم الفلسفي للحب يتداخل مع تجربة الرافعي الذاتية في الحب، بحيث يُظهر الرافعي الرجلَ فاعلاً، بينما المرأة منفعلة. تولد بفضل محبة الرجل، وتستلذ بمشاعر الحب المؤلمة، ولا تبوح بها، ونتيجة صدها وعزوفها عن المحب ينتج الألم المرافق للحب. إن مفهوم الحب عند الرافعي مستمد من تأثّره بالفكر العربي الإسلامي، ذلك أن الدين من أهم العوامل المؤثرة في فكر الرافعي. وهذا المفهوم لا يخرج عن مفهوم الحب في الحضارة العربية الإسلامية، فالحب وسيلة للوصول إلى الذات الإلهية. (1) أوراق الورد: رسائلها ورسائله لمصطفى صادق الرافعي، دار الكتاب العربي، بيروت، 1982، ص/ 212. (2) ينظر: (السحاب الأحمر) للرافعي، دار الكتاب العربي، بيروت، 1982، ص/ 32-33. و (حديث القمر) دار الكتاب العربي، بيروت، 1982، ص/ 63-64. و (وحي القلم)، دار الكتاب العربي، بيروت، (د. ت)، (3/ 155-
|
|
يعطيك العافيه على النقل الرائع
|
يتصفح الموضوع حالياً : 1 (0 عضو و 1 ضيف) | |
|
|
مواضيع مشابهة | ||||
الموضوع | الكاتب | القسم | الردود | آخر مشاركة |
اعجبتني نفسي فرجحت سيئاتي -فبكيت-مصطفى صادق الرافعي | كرستال11 | مــقالات الأعضاء | 3 | 29-08-2014 10:53 AM |
مفهوم المجتمع | The monsoon | منتدى الأسره والمجتمع | 5 | 30-10-2009 12:10 AM |
الإنسان قبـل الحب شيء... وعنـد الحب كل شيء... وبعـد الحب لا شيء | عاشق الموت | منتدى الأسره والمجتمع | 8 | 03-03-2009 09:29 PM |
مفهوم الإسلام | %القناص% | المنتدى الإسلامـــي | 14 | 18-11-2007 12:31 AM |
مفهوم الليبرالية . | العود | المنتدى العــــــــــــــــام | 3 | 28-09-2007 03:55 PM |