![]() |
|
خيارات الموضوع | ابحث بهذا الموضوع |
|
الحلقة الثالثة والعشرون معركة العشق ~ * * * * * * * * خرجت لإحضار بعض متطلبات المنزل في صباح اليوم التالي ، و قضاء بعض الحوائج . نمت الليلة الماضية على مقعد في الردهة ... بعدما أعياني التفكير المتواصل . عندما عادت دانة و أرادت الذهاب إلى سامر لتحييه منعتها ، و بنبرة حادة طلبت منها أن تلزم غرفتها حتى الصباح ... لم أكن أريد لشجار أن ينشب تلك الليلة ، أردت فرصة يتمكن فيها الجميع من ترتيب أفكارهم و استيعاب حقائق الأمور . حين عدت إلى المنزل وجدت أختي دانة جالسة في المطبخ في وضع يقلق ... قلت : " خيرا ؟ هل حصل شيء ؟؟ " قالت : " رغد المجنونة ! قررت تأجيل زفافها ! لا يفصلنا عن ليلة الزفاف غير ليال معدودة " صمت ، و لم أعقّب . قالت : " ألن نفعل شيئا ؟؟ " قلت : " دعها هي تفعل ما تريد " تعجبت و استاءت في آن واحد ، و قالت : " تعني أن الأمر لا يزعجك ؟؟ " " ليس للحد الذي تتوقعين ... لا أريد أن يضطرها أحد لفعل مالا تريد " " لكن الزفاف بعد أيام ! سامر مستاء جدا ... إنه مشتعل كالبركان " شعرت بالضيق ، قلت : " هل تحدّثت ِ معه ؟ " " لم أكد ، تحدّثت ُ مع رغد ، ثم جاء و طلب منّي تركهما بمفردهما ... " انزعجت من الفكرة ، قلت : " أين ؟ " " في غرفتها " تركت الأكياس التي كنت أحملها تنساب من يدي و ذهبت إلى هناك . عندما اقتربت من الباب ، سمعت صوت أخي . كان يتحدّث بعصبية ... أصغيت فإذا بي أسمع رغد تتحدث باكية . لم أحتمل ، طرقت الباب و قلت بحدة : " سامر " ثوان ٍ و إذا بالباب ينفتح و يخرج أخي . كان مكفهر الوجه مقطب الحاجبين متورم الأوردة . " نعم ؟ " نظرت إلى ما ورائه فرأيت رغد ، و وجهها الكئيب المبلل بالدموع . قلت : " أرغب في التحدث معك " " فيما بعد يا وليد " ألقيت نظرة أخرى على رغد فطأطأت الأخيرة برأسها بأسى و استسلام . قلت : " الآن يا سامر " قال بعصبية : " ألا ترى أنني مشغول بالنقاش مع خطيبتي ؟ " و مجرد نسبها إليه يحرّض شياطين رأسي على الشر و القتال . قلت و الدماء تصعد إلى وجهي و النار تشتعل شيئا فشيئا : " حسنا ، لكن ... بهدوء ... لا أريد لأي دمعة أن تراق " و انصرفت . بقيت جالسا على مقربة ... أضرب أخماسا بأسداس ... و أشد قبضتي و أرخيهما بين فينة و أخرى . بعد قرابة الساعة ، سمعت الباب يفتح فنهضت مسرعا ... رأيت سامر يمشي أمامي فلما رآني قال : " سوينا الأمور " قلت بذهول و خوف : " ماذا تعني ؟ " قال : " سنتم الزواج كما خططنا له " أدق الشعيرات الدموية في وجهي أحسست بها تتفجر فجأة . قلت : " و رغد ؟؟ " قال : " أقنعتها " قلت : " أقنعتها ؟؟ أم أجبرتها ؟؟ " قال بعصبية : " اذهب و اسألها لتتأكد بنفسك " سرت من فوري نحو غرفة رغد . طرقت الباب و قلت : " أنا وليد " لم أسمع جوابا . قلت : " أ أدخل ؟ " " نعم " سامر كان يقف خلفي . فتحت الباب و رأيت رغد تجلس على السرير تخفي نظرها تحت قدميها . قلت : " صغيرتي " ترددت قليلا ثم رفعت رأسها و نظرت إلي . كنت أرى في عينيها نظرات الخوف و الاستسلام . ربما هذا ما جعلها تتردد في النظر نحوي . قلت : " هل كل شيء على ما يرام ؟ " نظرت نحو سامر ثم نحوي و قالت : " نعم " لم أرتح للإجابة مطلقا ، قلت : " و الزفاف ؟؟ نؤجله أو نقيمه ؟ " قالت : " نقيمه " صمت برهة ثم قلت : " أ واثقة من ذلك ..؟ أخبريني بما تريدينه أنت لا ما يريده سامر و الجميع " رغد نظرت نحو سامر ثم قالت : " نعم . واثقة " قلت : " إذن لماذا أخبرتني بأنك لست ِ مستعدة للزواج الآن ؟؟ لماذا غيرت رأيك بهذه السرعة ؟؟ " لم تجب . قلت : " هل يجبرك سامر على شيء ؟ " سامر قال بعصبية : " و لماذا أجبرها ؟ بربّك يا وليد دع الأمور تسير كما هي " التفت إليه و قلت : " ابتعد أنت ، و دعني أتحدث معها بحرية " قال : " بل ابتعد أنت ، لاحظ أنك تتحدّث إلى خطيبتي أنا " هيجتني الكلمة مرة أخرى و أيقظت من كان نائما من شياطيني ... قلت بانفعال : " ابتعد يا سامر و لا تدعني أفقد أعصابي من جديد " و التفت إلى رغد و قلت : " اسمعي يا رغد ، لن يحدث شيء لا تريدينه أنت . إياك و الخوف من شيء . فإن كنت ترغبين في تأجيل الزواج فأخبريني الآن بصراحة ... هل تريدين ذلك أم أنك مضطرة إليه ؟؟ " رغد طأطأت برأسها من جديد و أخفت وجهها خلف يديها و أجهشت بكاءً . ثار جنوني و أنا أراها هكذا ... التفت نحو سامر الذي لا يزال يقف خلفي و قلت : " لن يقام هذا الزفاف و أنا حي أرزق " سامر صاح بعصبية : " وليد لا شأن لك بهذا " " لن أسمح لأحد بأن يرغم صغيرتي على شيء مطلقا " " ما قال أننا نرغمها ؟؟ " و التف نحو رغد و قال بعصبية : " هل أنا أرغمتك ؟؟ أخبريه " رغد وقفت و أولتنا ظهرها و صاحت : " دعاني و شأني . سأفعل ما تريدون جميعا . دعوني وحدي " قلت : " أ رأيت ؟ " سامر دخل الغرفة و اتجه نحوها و أمسك بكتفيها و أدارها باتجاهنا و هو يقول : " واجهينا يا رغد ... قولي له أنك قررت ِ ذلك و لم يجبرك أحد " رغد قالت بعصبية : " بل أجبرتموني " حملقنا كلانا فيها ، و قال سامر : " من أجبرك ؟ " قالت : " كلكم . و إن ليس بشكل مباشر. ليس أمامي إلا الرضوخ لقدري . لما تريدون أنتم جميعا .. لما تخططون أنتم جميعا .. كلكم " أنا و سامر تبادلنا النظرات الحادة ... قال : " إذن فأنت ِ لا تريدين الزواج الآن ؟؟ " قالت بعصبية و هي تصرخ في وجه سامر : " لا ... لا ... لا " كان سامر يمسك بكتفيها ، لكن يده تحركت الآن ... و فجأة سددت صفعة إلى وجهها ... أمام عيني ... ربما لم يكن في الصفعة من القوة ما يحدث الألم الجسدي بمقدار ما كان فيها من إيلام معنوي ... صاحت صغيرتي : " آي " و وضعت كفها على خدها المتألم ... أنا .. أرى صغيرتي .. مدللتي .. حبيبتي رغد .. تتلقى صفعة على وجهها من يد كائن بشري ... أي ٍ كان .. أمام عيني هاتين ؟؟ " سامر ! أيها الوغد ... كيف تجرؤ ؟؟ " و قبل أن أدع له الفرصة حتى ليلتفت إلي قفزت قفزة واحدة باندفاع إليه و انقضضت عليه ، و ووجهت لكمة قوية فتاكة نحو وجهه ... تلاها سيل متواصل من القذائف التي أشبعت بها جسد أخي من رأسه حتى إخمصي قدميه ... الرغبات التي كبتها في صدري منذ الطفولة ... و لم أجرؤ على التعبير عنها خرجت كلها من داخلي دفعة واحدة ... ضربته بوحشية و عنف لم أضرب بهما سواه ، و لم أضرب بهما مثيله منذ سنين صرت أرفع فيه و أخفض ... و أهز و أرمي ... و ألكم و أرفس .. و ألوي و أثني .. و أمارس كل أنواع الضرب المبرح التعذيبي الذي تلقيته في السجن على أيدي العساكر ... في جسد أخي ... جن جنوني و لم أتمالك نفسي ... لم أملك منعها أو إيقافها ... ضربت و ضربت حتى أصاب عضلاتي الإعياء و تصبب العرق من جسدي كله ... و نفذ الهواء من غرفة رغد فما عدت بقادر على التنفس ... و لم يكن أخي يقاوم أو يدافع ... بل استسلم لضرباتي.. لا أدري أمنعه من صدها الذهول أم العجز ؟؟ لم أنته من درس الضرب هذا إلا بعد أن فرغت شحناتي كلها .. و تطايرت شياطيني من رأسي واحدا بعد الآخر ... يداي كانتا تطوّقان عنقه بينما كنت أجثو على صدره ... أكاد أخنقه ... لا أعرف ما الذي جعلني أتوقف ... قلت و أنا أشد الضغط على عنقه تارة و أرخي قبضتي تارة : " ألا تعرف ما الذي أفعله بمن يتجرأ على إيذاء صغيرتي ... ؟؟ " شددت الضغط و سامر ينظر إلي بفزع و خوف ... قلت : " أقتله ... " و تراءت لي صورة عمّار و هو يبتسم ابتسامته الأخيرة للدنيا ... قبل أن أكسر جمجمته بالصخرة ... حررت عنق أخي من قبضتي فجأة ... و نهضت كالمجنون ... أتلفت يمينا و يسارا ... كأنني أبحث عن عمّار ... خيّل إلي أنه معي الآن ... لكن عيني وقعتا على أربع أعين تنظر إلي بذعر و فزع و ذهول اثنتان منها تخصان أختي دانة ، و الأخريان المغمورتان بالدموع هما عينا صغيرتي المذعورة رغد ... مشيت نحو رغد ، فسارت هي للوراء خوفا ... حتى اصطدمت بالجدار ... و لمّا صرت أمامها مباشرة قلت : " زواجك من هذا المخلوق منته تماما ، و إن حاول أي شخص إرغامك على أي شيء ، فويل له مني " خرجت بعد ذلك من الغرفة و من المنزل و إلى الفناء الخارجي ... أفرغ ما تبقى من غضبي في السجائر ... بعد قرابة الساعة و النصف حضرت السيدة أم حسام لزيارة رغد . ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ كنت أعلم أن الأمر لن ينتهي بسلام . ها قد أقبلت خالتي و تعقّدت الأوضاع أكثر فأكثر ... خالتي تحدّثت مباشرة إلى سامر و قات له أن أقل ما يجب فعله هو تأجيل موعد الزفاف حتى تستقر الأمور . سامر و الذي كان مثخنا بالكدمات محمر الوجه متهيج الأعصاب طلب منها بنبرة حادة ألا تتدخل ، ألا أن خالتي قالت : " لن أدعكم تتحكمون في مصير ابنتي كيفما شئتم " ثم نظرت إلى و قالت : " سآخذها معي إلى أن تعود أم وليد و نضع حدا لهذا الزواج " سامر اعترض و كذلك دانة ، ألا أنني تشبثت بخالتي و خرجت معها رغم ذلك . حين كنت أعبر الفناء الخارجي وجدت وليد هناك .. قال : " إلى أين ؟ " خالتي تولت الإجابة : " سآخذها معي لبعض الوقت " لم أر في عيني وليد أي اعتراض ، فخرجت معها ... في غرفة نهلة ذرفت الكثير من الدموع و أنا أروي لها ما حدث و أصف الهجوم الوحشي الذي قام به وليد ... و أرعبني . " كنت أعرف أن هذا ما سيحدث ... الآن أنا أحدثت شرخا في العائلة ... ماذا سيفعل والداي حين يعودان ؟؟ أنا نادمة على تهوري ... كان يجب أن أرضخ لقدري ... " " يكفي يا رغد ... أنت لم ترغبي في الزواج منه ، هذه الحقيقة إذن دافعي عنها " قلت : " لأجل ماذا أدافع عنها ؟ ماذا سأربح إن تخلصت من سامر و جعلت الجميع يتخذ مني موقفا معاديا ؟ ثم ماذا ؟ هل تتخيلين كيف سأعيش بينهم و قد حصل ما حصل ؟ " " أبقي معنا هنا " " مستحيل ... عمّي هو ولي أمري ... إنه أبي و لا يمكنني العيش في غير بيته " " ستعيشين في بيت زوجك ! " " أي زوج هذا ؟؟ " " الذي تحبين ! " قلت بألم و يأس : " و هل تعتقدين أنه بعد أن أنفصل عن أخيه سيكون من الطبيعي أن أرتبط به هكذا ببساطة ! أم هل تظنين أن وليد يفكر بي ؟ " " إذن لماذا ساندك في موقفك ؟ " " لأنه يشعر بالمسئولية تجاهي .. كما لو كنت واجبا عليه تأديته لا أكثر ... " و هي حقيقة مرة أتجرعها لحظة بعد لحظة ... رغما عني . ساعات طويلة قضيتها في التفكير ... إلام سيؤول أمري بعد الذي حصل ؟ و كلما تخيلت الوحشية التي طغت على وليد هذا الصباح شعرت بالخوف و الفزع .. أهذا هو ابن عمي الذي كنت أعرف ؟؟ أهذا هو الرجل الذي أحببت ؟ إنني حتى لا أجرؤ الآن على مجرد النطق باسمه ... عندما عدت إلى البيت في المساء لم يكن هو موجودا ، استقبلتني دانة بوجه عابس مليء باللوم و العتاب ... قالت : " هل أنت راضية عما فعلت ِ ؟ أي جنون هذا الذي أصابك ؟ " كنت أريد الهروب منها ألا أنها لحقتني و تابعت كلامها بكل إصرار و قسوة : " رغد أخبريني ماذا جرى لك ؟ إن سامر حزين جدا فهل يرضيك هذا ؟ ألا تشعرين بما يحس به ؟ ألا تعلمين أنه متلهف للزواج منك منذ زمن ؟ إنه يحبك بجنون .. أنت ِ خالية من المشاعر تماما كالجدار الذي خلفك " قلت بعصبية : " حلّي عنّي ! اتركوني و شأني " " لا لن أدعك و شأنك و أنا أراك تحطمين أخي بهذا الشكل . ستتزوجين منه و ينتهي الأمر كما رسمنا له " قلت : " و ماذا عن مشاعري أنا ؟؟ ألا يحق لي الزواج من الرجل الذي اختاره ؟ " نظرت إلي دانة بدهشة و قالت : " ماذا تقصدين ؟؟ أنك لا تريدين أخي ؟ " التزمت الصمت ، قالت : " لا تحبين أخي ؟؟ " قلت بانفعال : " بلى أحبه ... تماما كما تحبينه أنت ِ .. كأخي الذي تربيت معه ... فهل علي أن أتزوج من أخي ؟؟ " دانة بدت مذهولة و قالت بتردد : " رغد ... ما الذي تعنينه ؟؟ أتعنين أنك ... تحلمين بالزواج من شخص آخر ؟؟ " فاجأني سؤالها و أربك تعبيرات وجهي ، ما جعل الشكوك تكبر في ر أسها ... صمتت برهة ثم قالت : " لقد فهمت ... فهمتك أيتها الخبيثة ... إذن فقد أقنعتك خالتك و عائلتها ... تبا لكم جميعا " لم أستطع قول كلمة بعد .. بقيت أحملق في دانة بذهول و تشتت ، أما هي فقالت : " سأخبر والدتي بكل شيء ... سترين " و تركتني و انصرفت . لازمت غرفتي لبعض الوقت ثم ذهبت إلى غرفة سامر ... حينما طرقت الباب و ذكرت اسمي لم يأذن لي بالدخول ... ألا أنني فتحت الباب و تركته نصف مغلق .. و تقدّمت إلى الداخل . سامر كان يجلس على كرسي مكتبه في شرود و حزن ... حينما وقعت عيناه علي رأيت فيهما بحرا من الآهات و الألم ... سامر نهض و وقف ليواجهني ، كنت أعرف أنني لا أستطيع مواجهته .. ألا أنني لا أستطيع أيضا تركه هكذا .. تقدم سامر نحوي و قال بصوت كئيب : " لماذا يا رغد ؟ " لم أقو َ على إبقاء عيني مركزتين في عينيه بل هويت بهما نحو الأرض في خجل و خذلان .. و شعور بالذنب و الإثم ... اقترب مني أكثر و أمسك بوجهي و رفعه إليه ليجبرني على النظر إليه .. و قال : " أخبريني .. لماذا ؟ هل فعلت ما ضايقك مني ذات يوم ؟ " هززت رأسي نفيا ... أبدا ... مطلقا ...كلا .. إنه لم يكن هناك من يهتم بي و يحرص على مشاعري و يحسن معاملتي بمقدار ما كان سامر يفعل .. قال : " إذن لماذا ؟ أن .. تؤجلي الزفاف ربما بعد عسر كبير أجد له مبررا أو آخر .. أما أن .. أن .. تهدمي جسر الوصل بيننا هكذا فجأة .. فجأة و دون سابق تلميح .. و تعلني أنك أجبرت ِ على الارتباط بي .. و أنك لم ترغبي في ذلك يوما .. بعد كل هذه السنين يا رغد .. بعد كل هذه السنين .. فهذا ما لا أستطيع أن أجد له أي تفسير أو سبب مهما فتشت .. لماذا أخبريني ؟؟ " فاضت الدموع من عيني جوابا على سؤال لم يعرف لساني له إجابة .. سامر أخذ يمسح دموعي .. و قال بعطف : " أنا آسف لما حصل هذا الصباح .. كنت مجنونا .. سامحيني " أغمضت عيني إشارة إلى أنني قد نسيت الأمر .. و حين فتحتهما رأيت لمعان دمعة محبوسة في عين سامر المشوهة .. يخشى إطلاق سراحها .. قال : " لا تفعلي هذا بي يا رغد .. تعلمين كم أحبك .. " و طوّقني بين ذراعيه بعاطفة حميمة ... فتحت المجال أمام سامر للتعبير عن مشاعره ، و بقيت أسيرة بين ذراعيه فترة من الزمن .. لم أتحرك إلا حين سمعت صوتا قادما من ناحية الباب فالتفت كما التفت سامر .. و رأينا وليد يقف هناك . لا أستطيع أن أصف لكم النظرات الوحشية المرعبة التي كان يرمينا بها .. لقد كنت أشعر بها تلسعني و تحرقني .. تقدّم خطوة بعد خطوة ، تكاد خطواته تهز الأرض من قسوتها .. كان الشرر يتطاير من عينيه و هو يحملق في سامر و يعض على أسنانه .. شعرت بالخوف .. تراجعت للوراء .. اختبأت خلف سامر .. امتدت يدا وليد و أمسك بتلابيب سامر بعنف و قال : " قلت لك لا تحاول استدرار تعاطفها ثانية .. حذّرتك من الاقتراب منها حتى يعود والدي .. ألم تفهم ؟ " ثم سحبه و دفع به نحو الجدار .. سامر رفع رجله و سدّد ركله بركبته إلى وليد ، فقام هذا الأخير بلكم سامر بعنف على خدّه المشوه .. وليد قال و هو يلصق سامر بالجدار بقوة : " لن أسمح لرغد بالزواج منك .. أفهمت ؟ لا تستحق رجلا مشوها مثلك " قال سامر : " نعم ، فالأفضل لها الزواج من القتلة المجرمين " و ما إن قال سامر ذلك حتى تحوّل وليد إلى وحش .. نعم وحش .. فهو أقل وصف يمكنني نعته به .. صرخت : " توقفا " ألا أن الاثنين دخلا في عراك مميت ... أسرعت أجري بحثا عن دانة .. فوجدتها في غرفتها تتحدث إلى خطيبها .. صرخت : " أسرعي دانة .. يتقاتلان مجددا " دانة تركت السماعة و جاءت تركض معي .. حاولنا التدخل لفض العراك الجنوني ألا أننا فشلنا تماما .. و أخذت كل واحدة منا تصرخ من جهة دون جدوى .. يد الغلبة كانت بطبيعة الحال لوليد الذي كان يفوق سامر بدانة وبنية و قوة .. استمر العراك فترة من الزمن .. كنت أصرخ و أنا أبكي " توقفا .. يكفي " ألا أن أحدهما لم يكن ليستجب لي ... قلت : " أنا سأتزوج من سامر .. سأفعل ما تريدون .. هذا يكفي .. يكفي .. " ألا أن ذلك لم يزد الأمر إلا وطيسا .. دانة التفتت نحوي و صرخت بوجهي : " هذا كلّه بسببك أنت .. أيتها اللعينة رغد ابتعدي عن وجهي الآن .. " و دفعت بي نحو الخارج عنوة .. ركضت أنا نحو غرفتي و جعلت أبكي بصراخ .. و أنادي أمي و أبي .. ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ لو لم يكن أخي .. ابن أمي و أبي .. شقيقي .. من تجري دماؤه في عروقي و يختزن حبه في قلبي .. لكنت قضيت على هذا الرجل المشوّه الذي كان يعانق رغد قبل قليل و أرسلته إلى العالم الآخر .. لقد جنّ جنوني .. و فقدت أدنى معاني الرأفة و الإنسانية .. و أوسعته ضربا أشد و أقسى و أعنف من الدرس الذي لقنته إياه صباح هذا اليوم .. إنه جزاء من يقترب من صغيرتي أنا .. نعم ، إنها فتاتي أنا .. و لن أسمح لأي رجل مهما كان .. بأن يقترب منها مسافة تقل عن ميل كامل .. من الآن فصاعدا لقد كانت دانة تقف قربنا محاولة حشر نفسها بيننا و لو لم أسيطر على نفسي لدفعتها بقوة هي الأخرى .. إنني الآن في أشد لحظات عمري جنونا و ثورة .. و إن يقع في يدي أي سلاح ، فسأفتك بكل من يعترضني بدون تفكير .. و الشيء الذي وقع في يدي كان مجرد علبة حديدية وقعت من على المكتب أثناء عراكنا ... كنت مطبقا على سامر الواقع على الأرض ، و عائقا إياه عن الحركة .. بثقل جسمي الضخم .. رفعت يدي بما حملت ، بالأداة الحديدية على أهبة ضرب رأسه بها .. سامر كان يحاول التملص مني دون جدوى ، و ينظر إلى العلبة الحديدية و يصرخ " ماذا ستفعل يا مجنون ؟ " قلت : " سأحطّم جمجمتك .. " قال بذعر : " وليد ... ستقتلني ؟ " دانة أقبلت مسرعة و أمسكت بذراعي تعيقني عما كنت بجنون مقدما عليه ... تركت العلبة تسقط من يدي ... و قلت مهددا أخي : " سأقتلك .. إن حاولت الاقتراب منها ثانية .. " و ألصقت رأسي برأسه و قلت : " أنا لم أقتل ذلك النذل .. و أضيع من عمري كل تلك السنين مرميا في السجن .. و أخسر ماضي و مستقبلي ... لأخرج و أراك تتزوج من فتاتي رغما عنها .. و إن حاولت الاقتراب منها ثانية .. فسأرسلك إليه .. لأن هذا هو جزاء من يؤذي صغيرتي بأي شكل من الأشكال .. أفهمت يا سامر ؟ سأقتلك .. و أقتلكم جميعا إن تجرأتم على إيذاء صغيرتي و لو حتى بمجرد الكلام.. أفهمت ؟؟ " و سددت إلى وجهه اللكمة الأخيرة .. ثم نهضت .. ترنحت في مشيتي من شدة الإعياء .. و توجهت نحو الباب سائرا على غير هدى وقعت عيناي على دانة التي كانت تنظر إلي بذهول و فزع ... قالت و حدقتا عينيها مفتوحتان لأقصى حد : " وليد .. ما الذي تقوله ؟؟ " قلت مزمجرا : " نعم .. في السجن .. و لن يهمني العودة إليه إذا ما تعلّق الأمر برغد .. و لن أسمح لأحد بإجبارها على الزواج من شخص لا تريده .. و لن أدع أي رجل يتزوّج منها إلا إذا أخبرتني هي بأنها هي ترغب في الزواج منه و تريده ... مفهوم ؟؟ " و خرجت من الغرفة تاركا المذهول مذهولا ... و المجروح مجروحا ... و المحطم محطما ... ذهبت رأسا إلى غرفة رغد و التي قفزت مذعورة ما أن رأتني ... و صارت ترتجف بخوف ... لحظتها فقط أدركت أنني خرجت من طوري .. و أنني لم أكن في وعيي و رشدي .. و أنني شوّهت أي صورة حسنة يمكن أن تكون لا تزال باقية في رأس رغد عني .. قلت : " رغد " سماعها لكمتي جعلها تنتفض خوفا .. ربما كان صوتي مرعبا .. ربما كان شكلي مفزعا .. ربما كنت أشكّل بالنسبة إليها هذه اللحظة مصدر روع و وجل .. وقفت متسمرا في مكاني أراقب صغيرتي المذعورة .. سمحت للأرض التي تلامس قدمي ّ بامتصاص الباقي من غضبي و ثورتي و تنفست أنفاسا عميقة تطرد الشر من صدري .. و أرخيت ما كنت أشده من الأعصاب و العضلات .. و قلت بصوت حاولت جعله حنونا بقدر ما أمكنني في ساعة الوحشية تلك : " صغيرتي رغد .. لا تفزعي مني ..أنا آسف " لكن القشعريرة و الرعشة لم تفارقا يديها و فكها الأسفل .. قلت بألم : " آسف لإرعابك يا رغد .. أرجوك لا تفزعي مني .. أخبريني فقط بما تودين مني القيام به و أنا رهن إشارتك " رغد تكلمت بارت جاف قائلة : " دعني وحدي " وقفت لحظة في مكاني عاجزا على تحريك قدمي ، بعد كل تلك القوة التي أفرغتها في بدن شقيقي ... قلت : " سامحيني يا رغد .. أنا وليد كما تعرفينني " قالت : " أنت لست وليد .. غادر غرفتي .. دعني وحدي " آلمني طلبها هذا فقلت بانكسار : " كما تأمرين .. سأخرج لكني سأعود .. و سأفعل أي شيء ترغبين فيه بنفسك .. حتى و إن رغبت ِ الزواج من سامر مجددا .. لكنني متى ما شعرت ُ بأن أحدا يضطرك لفعل ما لا تريدين .. فلن أبقى مكتوف اليدين مطلقا " و غادرت غرفة رغد بل و المنزل أيضا ... عندما عدت إلى هناك ، كان ذلك في عصر اليوم التالي و رأيت سيارة نوّار عند باب المنزل ألا أن سيارة سامر لم تكن موجودة . حينما دخلت ، وجدته و دانة يجلسان في غرفة المعيشة ... ألقيت التحية ، فرد نوّار بينما أشاحت دانة بوجهها عني . سألت : " أين سامر ؟ " لم تجب ، فرد نوّار : " عاد إلى شقته " سألت : " متى غادر ؟؟ " قال : " اعتقد عند الظهيرة " قلت موجها كلامي إلى دانة : " و أين ابنة عمّك ؟ " لم تجب .. كررت سؤالي : " أين ابنة عمك يا دانة ؟؟ " التفتت إلي دانة بغضب و قالت : " لو سمحت .. لا تتحدّث معي بعد الآن " نوّار بدا محرجا و قال بصوت خافت : " دانة .. أعصابك ! " ألا أن دانة صرخت : " أنا بريئة من هذا الرجل و لا أريد أن يتحدّث معي من الآن فصاعدا " تركتهما و ذهبت لأفتّش عن رغد . لم أجدها في أي مكان ، فعدت ُ إليهما مجددا و سألت : " أين ابنة عمك ؟ " لم تجبني دانة ، فتدخّل نوّار قائلا : " أظن أنها ذهبت إلى بيت أقاربها ... فقد جاء حسام قبل فترة و اصطحبها معه " انزعجت من ذلك ، و قلت : " وحده ؟ " قالت دانة بحدّه : " نعم وحده . اتصلت به و طلبت منه الحضور ليأخذها إلى بيته خالتها. ماذا بعد ؟ " قلت : " لمَ لم تنتظرني ؟ " قالت دانة بعصبية : " و لماذا عليها أن تنتظرك ؟ لقد ذهبت مع ابن خالتها و انتهى الأمر " قلت بغضب : " دانة .. كيف تتركينها تخرج هكذا ؟ " قالت بنفور : " و هل كنت تنتظر مني أن أذهب معهما أم ماذا ؟؟ " ثم أضافت : " ليس عليك أن تقلق فهي في المكان الذي تحب التواجد فيه .. مع أحبابها " قلت : " إلام تشيرين ؟؟ " قالت بنفاذ صبر : " ماذا ؟؟ ألم تخبرك أيضا بأنها تخلّت عن شقيقي و سببت كل هذا من أجل ابن خالتها العزيز ؟ فلتشبع به إذن " فوجئت .. ذهلت .. أصبت بالهول لدى سماعي ما قالته دانة .. و انفغر فوهي عن كلمات مبعثرة : " من ؟ ماذا ؟ ما الذي تقولينه ؟ " دانة عضت على أسنانها و شدّت على قبضتيها و قالت حانقة : " اللعينة .. لن أسامحها على ما فعلت بأخي أبدا .. لن أسامحك أنت أيضا .. عسى الله ألا يوفّقها في الزواج ممن حطّمت قلب شقيقي من أجله ... أبدا ... أبدا يا رب "
|
|
الحلقة الرابعه والعشرون
كلما تذكّرت الدمعة الحبيسة في عين سامر، التي كاد يطلقها لحظة عناقنا الأخير.. تفجرت عوضا عنها عشرات الدموع من محجري. لم يكن ما فعلته شيئا يغتفر.. إنه سامر رفيق الطفولة و الصبا و المراهقة.. إنه أعز إنسان لدي.. لكنه ليس الأحب.. في صباح اليوم، عندما رأيته.. تلوّت أمعائي و أصابني مغص شديد مفاجئ للكدمات التي شوهت ما لم يكن مشوها من جسده النحيل. حين حاولت التحدّث إليه لم يرد علي، حتى بدأت أقنع نفسي بأن اللكمات التي تلقاها فكه قد أعجزته عن النطق ، ألا أنه تحدّث مع دانة التي انفردت به مطولا في غرفتها . بالتأكيد كان حوارهما يدور حولي و حول ما سببته من مشكلة معقدة بغبائي و تهوّري... و كل هذا، لأنني اكتشفت أنني أحب وليد ! أحب رجلا وحشا مفترسا... لم يسبب لي منذ ظهوره في حياتي من جديد غير الألم و المعاناة... و لو استهلكت كل كلمات الندم الموجودة على وجه الأرض، ما كفاني ذلك لأعبّر عما أشعره هذه اللحظة من الذنب... الآن، أنا فتاة طائشة ناكرة للجميل و المعروف، حطّمت قلب الرجل الذي يحبها و يتلهف لإسعادها، من أجل رجل لم تعرف عن حقيقته شيئا أكيدا، غير أنها تحبه..وتتمناه.. و حينما يعود والداي، و يرحل وليد، كما رحل سامر، فإن كل شيء سينتهي.. و أفقد عائلتي.. و أعود يتيمة وحيدة كما قدمت إليهم قبل 15 عاما... بين الفينة و قرينتها تجيء ابنة خالتي نهلة لتتفقدني، فتراني كما تركتني.. أهيم في أفكار بائسة لا نهائية.. في ضياع و تشتت. كنت أحاول النوم على سريرها، إذ أنني قضيت الليلة الماضية ساهرة سهر النجوم.. وحيدة وحدة القمر.. باكية بكاء المطر.. تعيسة تعاسة السواد المخيم على السماء... تتلاعب بي الأفكار تلاعب الرياح بورقة شجر صفراء جافة.. فقدت فرعها و أصلها و جذرها و تاهت في صحراء لا نهاية لا.. و لا بداية. " أما زلت مستيقظة ؟ " سألتني نهلة و القلق الشديد يتملكها و يحوّل وجهها البشوش الصريح إلى مغارة من الغموض و الحيرة.. قلت: " أنى لعيني النوم يا نهلة، و قد فعلت ُ ما فعلت ؟ .. غدا مساءا سيعود والداي.. ماذا أقول لهما ؟ يا إلهي لا أريد أن أريهما وجهي.. " " هّوني عليك يا رغد، لستِ أول و لا آخر فتاة تحل ارتباطها من خطيبها بعد سنين من الخطوبة ! لا عليك يا ابنة خالتي.. هل تعتقدين أنهم سيطردونك من المنزل مثلا من جراء فعلتك هذه ؟؟ " قلت: " لا أستحق العيش تحت كنفهم بعد الآن... بل لا أجرؤ على العودة إليهم ! أوه لو رأيت الطريقة التي خاطبتني بها دانة هذا اليوم.. " و تذكّرت كلماتها القاسية التي وجهتها إلي بعد مغادرة سامر، مكسور الخاطر... قالت نهلة: " و منذ متى كانت طيبة معك ! إنها دائما قاسية عليك، دعك ِ منها.. لكن عندما تعود أمك يا رغد، أخبريها بحقيقة الأمر.. أخبريها بأنك لم تحبي سامر يوما و أنك... تحبين وليد !" قلت بأسى و اعتراض: " مستحيل ! لا يمكن أبدا... و لا بشكل من الأشكال ! كيف يا نهلة كيف ؟؟ و ماذا سأجني من قول هذا ؟ أم تظنين أنها ستقول : لا بأس ، ننقلك من سامر إلى وليد ، بهذه البساطة ؟؟ " و جعلت أندب حظي الذي أوقعني في مأزق كهذا.. " ليته لم يسافر و يتركني.. ليته لم يعد ! ليتني أستطيع التوقف عن التفكير به ! ليته يحس بي... ليت معجزة سماوية تجعله يرتبط بي و تجعل سامر ينساني.. ليته يختفي من حياتي و قلبي.. ليته يظهر الآن و ينتشلني من كل هذا ! " و حشود من الأمنيات تمنيتها في عجز عن تحقيق أي منها... أو حتى تخيّل تحقيقها.. ألا أن واحدة منها تحققت فورا ! طرق الباب هاهنا و دخلت سارة و قالت: " قريبك الكبير أتى يا رغد " نظرت نحو سارة بقلق مفاجىء و انعقد لساني، فتحدّثت نهلة بالنيابة و قالت : " من تعنين سارة ؟؟ " قالت : " وليد الطويل ! " أنا و نهلة تبادلنا النظرات ذات المعنى، ثم قلت: " ماذا يريد ؟؟ " سارة قالت وهي مبتهجة: " سأل أولا عن والدي و أخي، و كلاهما غير موجود ! ثم قال: ( هل ابنة عمي رغد هنا ؟ ) قلت ( نعم ) قال: ( هللا استدعيتها من فضلكِ يا آنسة ؟).. قال عنّي آنسة ! " و بدت مسرورة بهذا الاكتشاف العظيم ! إنها آنسة ! ما أشد فراغ رأس هذه الفتاة ! يبدو أنها المرة الأولى التي تسمع فيها أحدا يطلق عليها هذا اللقب ! قلت: " أين هو ؟" قالت: " في الخارج ! عند الباب " نظرت إلى نهلة و قلت: " لا أريد العودة إلى البيت.. لأبد أنه جاء لاصطحابي إلى هناك. لن أذهب " و سرعان ما كانت سارة على وشك الذهاب إليه و هي تقول: " سأخبره بذلك " نهلة صرخت: " انتظري سارة ! ما بالك ما أن تلتقط أذناك كلمة حتى أسرع لسنك ببثها ؟ اذهبي و أخبري أمي عن قدومه حتى تتصرف ! " و انصرفت سارة مذعنة للأمر ! و بكل سرور ! بعد ثوان حضرت خالتي، و قالت: " سأذهب للتحدث إليه، لا تقلقي " ألا أن قلقي بدأ يتضاعف هذه اللحظة... ذهبت خالتي ثم عادت بعد دقيقتين تقول: " يرغب في التحدث معك، تركته واقفا في الحديقة " هممت بالنهوض، فقالت: " ما لم ترغبي في ذلك فسأصرفه " قلت: " لا داعي خالتي. سأصرفه بنفسي " و تلوت ُ بعض الآيات في صدري لتمنحني القوة على الوقوف أمامه من جديد ! في الحديقة الصغيرة الأمامية للمنزل، وجدت وليد واقفا على مقربة من الباب. سرت إليه أجر قدميّ جرا... في خوف و اضطراب. كنت أعلم أن خالتي و ابنتيها يراقب نني من النافذة ! حينما صرت أمامه، بادر هو بإلقاء التحية ، ثم سألني : " أ أنت بخير ؟؟ " إنه سؤال عادي جدا يتداوله الناس عشرات المرات في اليوم لعشرات الأسباب ، ألا أنني احتجت وقتا قياسيا للتفكير في الإجابة ! هل أنا بخير ؟؟ لما رأى وليد ترددي و حيرتي قال: " تبدين بحال أفضل.. " نطقت لا إراديا بصوت خفيف: " نعم " قال: " هل نعود إلى البيت إذن ؟؟ " هنا تحدثت بصوت عال مندفع: " لا ! " فوجىء وليد بردي فقال: " لم ؟ إنها الثامنة.. هل تودين البقاء أكثر ؟؟ " قلت: " نعم " " إلى متى ؟ تأخر الوقت ، دعينا نعود فقد تركت دانة وحدها " " لا ! " بعد وهلة واصل وليد كلامه: " هل تنوين المبيت هنا ؟؟ " " نعم " " هذه الليلة فقط ؟ " " لا " " كل ليلة ؟؟ " " نعم " " أتمزحين ؟؟ " " لا " " إذن فأنت جادّة ؟؟ " " نعم " " و هل تظنين أنني سأسمح بهذا ؟ " " لا " لم أكن أنظر إلى وليد بل إلى الحشيش الأخضر المغطي للأرض...في تشتت.. لكنه حين قال: " لا أم نعم ؟؟ " انتبهت ُ لسؤاله الأخير، و لجوابي الأخير... و رفعت عيني إليه بارتباك و قلت: " نعم.. أعني بالطبع نعم " قال: " بالطبع لا " كانت نظرته مليئة بالإصرار.. ، قال: " فلنعد إلى البيت يا رغد " قلت: " لا " قال : " أليس لديك تعليق غير نعم و لا ؟ دعينا نذهب الآن لأنني لا أريد ترك دانة بمفردها أطول من هذا " " لا أريد العودة، سأبقى هنا" " لماذا ؟ " " أريد البقاء مع خالتي.. أريد بعض الهدوء و الطمأنينة بعيدا عنكم " يبدو أن كلماتي قد ضايقت وليد لأن تعبيرات وجهه الآن تغيرت .. قال: " غدا سيعود والداي و نضع حدا لكل شيء. ستسوى الأمور بالشكل الذي تريدينه أنت ِ.. لا تقلقي و لا تضطري نفسك للتضحية.. " قلت: " لكن سامر لا يستحق.. لا يستحق ما سببتُه له، و لا ما فعلت َ أنت به.. مسكين سامر.. " و حتى تعاطفي مع سامر أزعجه و زاد من حدّة تعبيرات وجهه الغاضبة.. قال: " ستسوّى الأمور غدا أو بعده. لن أسافر قبل أن أتأكد من أن كل شيء يسير على خير ما يرام " و كلمة أسافر هذه دقّت نواقيس الخوف في صدري... قلت بسرعة: " تسافر ؟ هل ستسافر ؟ " قال: " سيعود والدي و تنتهي مهمّتي " و كم قتلتني جملته هذه... ألا يكفيني ما أنا به حتّى يزيدني هما فوق هم ؟؟ قلت: " و زفاف دانة ؟ " تنهّد و نظر إلى السماء.. و لم يجب. قال بعدها: " هيا رغد " لم أشأ العودة... فلأجل أي شيء أعود ؟ لأجل أن أذرف المزيد من الدموع.. لأجل أن أعيش المزيد من الحسرة ؟؟ ألأجل أن أراه و هو يرحل من جديد ؟؟ نعم، فهو قد جاء في مهمة محددة أنجزها و سيغادر.. كرر: " هيا يا رغد ! " قلت باعتراض: " لن أذهب معك. سأبقى هنا لحين عودة أمي " ازداد استياؤه و قال بما تبقى له من صبر: " رجاءا يا رغد.. هيا فأنالا أحبذ أن تباتي خارج المنزل " " لكنه بيت خالتي و قد اعتدت على هذا " " عندما يعود أبي افعلي ما تشائين و لكن و أنت ِ تحت رعايتي أنا، لا أريد أن تباتي في مكان بعيد عني " " لماذا ؟ " " لن أشعر بالراحة لذلك و أنا متعب بما يكفي، و لا ينقصني المزيد من القلق. تعالي معي الآن " شعرت بالغيظ من كلامه. من يظن نفسه ليتحكم بي هكذا ؟ إذا كان أبي لا يمانع من مبيتي في بيت خالتي من حين لآخر فما دخله هو ؟؟ " لن آتي " قلتها بتحد ٍ، فنظر إلي بعصبية و صرخ بحدّة: " رغد ! " انتفضت ُ من جراء صرخته المخيفة هذه.. و حدّقت به مذعورة.. تتسابق نبضات قلبي لدفع الدماء خارجه عشوائيا.. عيناه كانتا متمركزتين على عيني و حاجباه مقطبين و وجهه غاضب عابس مرعب.. يثير الفزع في نفس من لا يهاب الوحوش ! تراجعت إلى الوراء خطوتين في هلع.. كنت أتمنى لو تستطيع رجلاي الركض، ألا أن الفزع صلّب عضلاتهما و جمّد حركاتهما.. وليد مد يده نحوي فارتعدت.. في خشية من أن يلطمني.. لكن يده توقفت في منتصف الطريق... قلت باضطراب و ارتجاف: " سـ .. أحضر حـ .. قيبتي " و استدرت ُ مرعوبة و جريت بضع خطوات فارة، ألا أنه ناداني مجددا: " رغد " تصلبت ُ في مكاني و رجلي معلقة فوق الأرض.. ثم التفت إليه بخوف يفوق سابقه.. ماذا الآن؟ هل ينوي صفعي أو ماذا ؟؟ أراه يقترب مني أكثر و لا أقوى على الفرار.. حين صار أمامي مباشرة نظر إلي بعمق.. و قال: " رغد.. ما بالك فزعت ِ هكذا ؟؟ " لم أنطق و لم يخرج من فمي غير تيارات الهواء السريعة اللاهثة.. وليد حدّق بي بانزعاج و مرارة و قال: " رغد ! هل تظنين أنني سأؤذيك بشكل من الأشكال ؟؟ " ثم تابع: " أنت ِ مجنونة إن فكّرت ِ هكذا " نظر إلى أصابعي المتوترة المرتعشة، ثم إلى عيني المفزوعة ثم تنهد بضيق و قال : " حسنا، سوف أمر بك غدا قبل أن نذهب لاستقبال والدي ّ.. لكن إذا أردت الحضور قبل ذلك فأعلميني و لا تطلبي ذلك من ابن خالتك.. " ما زلت أحدّق به نصف مستوعبة لما يقول... قال بصوت خفيف دافىء: " اعتني بنفسك.. صغيرتي " ثم ختم: " تصبحين على خير " و استدار.. و سار مبتعدا.. و غادر المكان. بقيت أنا أراقبه حتى غاب... و غاب معه قلبي و حسّي... سرت ببطء عائدة إلى الداخل فوجدت الثلاث في انتظاري.. سألت خالتي: " إذن ماذا ؟ " قلت: " سيأتي غدا... " و صعدت أنا و نهلة إلى غرفتها من جديد... قالت: " بدوت ِ مضطربة رغد ! ماذا قال لك ؟؟ " أمسكت بيديها و قلت: " نهلة.. سأجن.. لا أعرف لم أصبح هكذا ؟ إنه مخيف ! " " رغد ! ماذا قال ؟؟ " " لا أذكر ما قال ! ماذا قال ؟؟ لا أدري نهلة إنني أفقد تركيزي حين يكون على مقربة ! لا أعرف ما الذي يصيبني ؟؟ " و لم أتمالك نفسي... تفجرّت عيناي بسيلين متوازيين من الدموع الدافئة تسابقا على تبليل خديّ الحزينين... " رغد.. عزيزتي تماسكي " " إنه سيسافر.. من جديد يا نهلة سأحرم من وجوده.. من رعايته.. من أن أراه.. و أتعلّق به.. و اسمعه يناديني ( يا صغيرتي ) كما كان يفعل منذ طفولتي.. لا أحد يناديني هكذا حتى الآن.. كيف سأتحمّل عودة حياتي خاليه منه و قلبي أجوف لا يسكنه أحد ؟ سأجن يا نهلة إن تركني و غادر.. لا أحتمل ذلك.. أنا أحبه كثيرا يا نهلة كثيرا.. إنه كل شيء بالنسبة لي.. ما أنا فاعله من بعده ؟ أخبريني ماذا أفعل ؟ ماذا ؟ " و لم أر غير الظلام و السواد الذي غلّف حياتي و بطّنها أسفا على وليد قلبي... و رغم الآلام و التعب.. و الإعياء الذي أعانيه..ضل النعاس طريقه إلى عينيّ حتى ساعة متأخرة من تلك الليلة المشئومة... إلى البحر.. حيث أرمي بأثقال جسدي و هموم صدري الضائق الحزن... ألا أنني عدت إلى المنزل الكئيب و جدرانه العاتقة.. لأبقى رفيقا لشقيقتي الغاضبة... كانت في غرفتها، حمدت الله أن لم تسنح الفرصة للقائنا مجددا، فبعد الذي أثارته هذا اليوم، كرهت نفسي و كرهت انتسابي لهذا البيت.. بعدما رحل نوّارعند المغرب، أتتني و مزيج من الشرر و الغضب و الذهول و عدم التصديق يتربع على وجهها.. " سؤال واحد، أجبني عليه.. و بعدها انس أن لك أختا.. يا وليد، قل لي.. أنت.. كنت في السجن ؟؟ " و تلا السؤال عشرات الأسئلة.. أسئلة بدا أنها عرفت الإجابة عليها من سامر، و الذي بالتأكيد خضع لاستجواب مكثف من قبلها قبل رحيله.. و أسئلة أخرى تهرّبت من الإجابة عليها.. فما رأيته في عينيها من الغضب و الاحتقار كان كاف لقتل أي رغبة في الدفاع أو التبرير في نفسي.. " لا أصدّق ذلك ! أخي أنا.. قاتل خرّيج سجون ؟؟ و أنا من كنت أظنه رجل أعمال كبير درس في الخارج ! أنا من كنت أتباهى بك بين رفيقاتي ..! كيف أواجه خطيبي و أهله بحقيقة خاذلة كهذه ؟ لذلك كنت تتحاشى الحديث عن نفسك ! كم أنا مصدومة بحقيقتك ! " عندما صوّبت نظري إليها، أشاحت بوجهها الباكي و ركضت إلى غرفتها تواري الألم.. و تدفن الواقع المخزي.. و هاهي الآن.. منعزلة في ذات الغرفة منذ ساعات... و بدوري، انزويت في غرفة حسام مع حشد من الأفكار الكئيبة.. تولى قيادتها و سيادتها..صغيرتي رغد.. و كلما تذكرت الخوف الذي تملكها و هي تقف أمامي.. أكره نفسي و وجودي و كياني.. إذا لم أكن على الأقل أمثل مصدر الطمأنينة و الأمان لصغيرتي.. فماذا يعني وجودي في هذا الكون ؟؟ ماذا تبقى لي.. ؟ ها قد خسرت أهلي أيضا.. سامر و تشاجرت معه و حطمت قلبه و علاقتي به .. و دانة و وقعت من عينيها و صارت تزدريني.. و رغد.. رغد الحبيبة.. تنفر مني و ترتجف خوفا ؟؟ كيف جعلتها تذعر مني هكذا و تفقد ثقتها بي ؟؟ ما عساها تظن بي الآن ؟؟ أي موقف ستتخذ مني متى عرفت عن سجني و جريمتي ؟؟ هل ستحتقرني مثل دانة ؟؟ لا يا رغد أرجوك .. فأنا لن أحتمل ذلك أبدا.. و أفضل الموت على العيش لحظة واحدة تنظرين فيها إلي بذرة ازدراء واحدة.. مهما كانت جريمتي و آثامي.. ليتكِ لا تعلمين.. يا رغد.. سامحيني.. ربما لم أعد وليد الذي عرفته و تعلّقت ِ به صغيرة، بفخر و معزّة و ثقة.. لكنني لا أزال وليد الذي يحبك و يتوق إليك.. يهتم بكل شؤونك بهوس... ليتك ِ تعلمين... نمت أخيرا على خيال الذكريات الجميلة الماضية.. فهي الشيء الوحيد الجميل في حياتي.. و الذي يمكن لقلبي المنفطر الشعور بالسعادة و الراحة حين تذكره... فجأة، صحوت من النوم مفزوعا على دوي شديد زلزل الغرفة بما فيها.. فتحت عيني ّ فإذا بي أرى الليل نهارا.. و السواد نارا.. و السكون زلزالا.. و الهدوء ضجيجا عظيما...مهولا.. و أرى الأشياء من حولي تهتز و تقع أرضا و سريري يتذبذب.. للوهلة الأولى لم أستوعب شيئا، أهو كابوس أم ماذا ؟؟ و سرعان ما صدر صوت انفجار مجلجل حرك جدران المنزل... قفزت من على سريري أترنح مع الاهتزازات، و خرجت مسرعا من الغرفة و إذا بي أرى شقيقتي تأتي مسرعة نحوي و هي تصرخ " ما هذا ؟ قنابل ! " و للمرة الثالثة دوي صوت انفجار ضخم و أضيئت الدنيا بشعاع النيران.. و عبقت الأجواء بالدخان و روائح الحريق.. كانت الأرض تهتز من تحتنا فأسرعت بالإمساك بشقيقتي و انبطحنا أرضا.. و شهدنا زجاج النوافذ يتحطم و تقتحم ألسنة النيران المنزل... و تتوزع حارقة كل ما تقع عليه... اندلع الحريق من حولنا في أماكن متفرقة فجأة.. و توالت أصوات الانفجارات مرة بعد أخرى بعد أخرى .. بشكل متواصل و مندفع .. شيء ما اخترق السقف فجأة و هوى أرضا، و انفجر... ركضت أنا و دانة مبتعدين بسرعة عن ذلك الشيء و هي تصرخ... و بدأ السقف يهوي فوق رءوسنا.. هربنا فزعين مسرعين ناجيين بنفسينا متجهين نحو المدخل.. لا يعرف أحدنا أي تطأ قدماه.. و نحن نعبر الردهة.. توقفت فجأة و صرخت: " رغد ! " قفزت قفزا نحو غرفة رغد و صرخت: " رغد.. رغد " و دون أن أنتظر فتحت الباب بسرعة واقتحمت الغرفة و لم أر غير النيران تلتهم الأثاث... و تحرق السرير.. " رغد.. " كاد قلبي يتوقف، بل إنه توقّف، و كدت أسلم نفسي للنيران تلتهمني.. ألا أنني فجأة تذكرت أنها لم تبت هنا الليلة.. و لا أعرف ما الذي دفعني لنسيان أو تذكر هذه المعلومة..هذه اللحظة صرخات دانة وصلتي رغم الدوي المجلل الطاغي على أي صوت في الوجود، و وجدتها مقبلة نحوي بذعر تقول: " تهدّم السقف.. سنموت " ثم نظرت نحو سرير رغد المشتعل نارا و صرخت: " رغد " و بدت و كأنها دخلت في نوبة فزع هستيرية، أمسكت بها و قلت: " ليست هنا، لنخرج فورا " و عوضا عن التوجه إلى الردهة ثم المخرج، توجهت إلى غرفتي إذ أن فكري قادني تلقائيا إلى مفاتيح السيارة.. سحبتها و سحبت المحفظة التي كانت بجوارها و أطلقت ساقي للرياح، ممسكا بيد شقيقتي الصارخة بذعر.. فتحنا الباب و خرجنا إلى الفناء و خرجت معنا الأدخنة التي نفثها الحريق داخل المنزل... و رأينا السماء تسبح في الدخان، و الليل نهارا ملتهبا..أحمر.. و الحجر يتساقط من حولنا كالمطر.. بينما تعج الدنيا بأصوات انفجارات متتالية.. و تتزلزل الأرض مع كل انفجار..أيما زلزلة و عندما فتحت الباب الخارجي، رأيت ما لم تره عيناي من قبل.. و لا من بعد.. رأيت النيران مندلعة في كل الأنحاء.. و المنازل تتهدّم.. و الأرض تتصدع و تتشقق.. و الناس.. يركضون في كل الاتجاهات فارين صارخين مذعورين.. يصطدم بعضهم ببعض و يدوس بعضهم بعضا.. و من السماء المشتعلة، كانت تتساقط صواريخ و قنابل أشبه بالشهب و النيازك، ترتطم بأي ما يعترض طريقها، و تدمّره.. لقد كانت المرة الأولى التي أشهد فيها قصفا جويا.. وجها لوجه.. كنا في موعد مع الموت... وقفت دانة مذعورة فزعة.. ترقب شعلة نارية تهوي من السماء ثم تسقط فوق منزلنا.. شددت على يدها و سحبتها مسرعا إلى خارج المنزل، نحو السيارة.. و نحن حفاة الأقدام و مجردين إلا من لباس النوم.. ما كدت أفتح باب السيارة حتى تفجّر المنزل.. و هطلت الحجارة و الشظايا و الشرار فوق رءوسنا... " اركبي بسرعة " دفعت بشقيقتي إلى داخل السيارة و توجّهت إلى الباب الآخر، ركبت و انطلقت مسرعا مبتعدا عن المنزل.. في عكس اتجاه الطريق، أدوس على الأرصفة اصطدم بكل ما يعترض طريقي، و أحطم كل ما يصادفني.. الشوارع كانت تعج بالناس الفارين من النيران.. إلى النيران.. و القليل من السيارات التي تسير باتجاهات مختلفة عشوائية على غير هدى.. سلكت أسرع طريق يؤدي إلى منزل أبي حسام، غير آبه بالشهب التي ترمي بها السماء من فوقي و من حولي، لا أرى من الأهوال الدائرة من حولي شيئا.. لا أرى إلا صورة رغد مطبوعة على زجاج النافذة أمامي.. كل ذلك كان في دقائق لا أعرف عددها و لا أمدها وصلت أخيرا إلى منزل أبي حسام و رأيت النار تأكل رأسه... " رغد... رغد.. لا.. لا.. " صرخت كالمجنون.. هبطت من السيارة راكضا بوابة سور الحديقة.. ضربته بعنف ٍ حطّم زجاجه ثم فتحته و اقتحمت المنزل و أنا أنادي بأعلى صوتي و بكل جنوني: " رغد.. رغد.. " كنت متوجها إلى باب المنزل الداخلي و الذي أراه أمامي مفتوحا... تخرج منه ألسنة النار.. و أنا أناديها بفزع..و رهبة.. مما قد تكون الجدران تخبئه خلفها و الأقدار تخفيه على بعد خطوات.. يا رب لا تفجعني بصغيرتي و أحرقني أنا قبل أن تلمس النيران شعرة منها... يا رب إن كنت اخترتها فأنزل قنبلة فوق رأسي تفجّرني هذه اللحظة قبل أن أدخل و أراها جثة.. " رغد.. رغد.. " صرخت و صرخت و صرخت.. صراخا شعرت به أقوى و أفظع من دوي القنابل المتفجرة من حولي ..و أنا أركض نحو النيران.. ما كدت أصل إلى الباب حتى سمعت صوت رغد يناديني.. " وليـــــد " التفت يمنة و يسرة أبحث عن مصدر الصوت كالمجنون.. أدور حول نفسي و أصرخ بقوة: " رغد... رغد " و عند زاوية في طرف الحديقة، رأيت رغد و عائلة خالتها جميعا مكومين قرب بعضهم البعض متشابكي الأيدي ينتظرون المصير المجهول.. مع الإضاءة التي أحدثها انفجار قنبلة خارج المنزل، استطعت أن أرى رغد جيدا و هي تقف هناك.. ثم تأتي راكضة مسرعة نحوي.. فأفتح ذراعي و أسرع بالتفافها في حضني، و أطبق عليها بقوّة.. " رغد.. أنت ِ بخير ؟؟ الحمد لله.. الحمد لله " " وليد .. أنتما حيان ؟؟ " و التفت للخلف فرأيت شقيقتي تصرخ: " رغد " و تتحرر رغد من بين ذراعي و ترتمي في حضن دانة و هي تهتف باكية: " أنتما حيان.. أنتما حيّان " جذبت الاثنتين و ضممتهما إلى صدري.. لا أعرف من منا نحن الثلاثة كان أكثر فزعا من الآخرين.. انفجار آخر دوي الأجواء، فانبطحنا أرضا و جعلت الأرض تهز أجسادنا كما تهز أفئدتنا المذعورة.. و أخذ الجميع يتصايح و يصرخ.. و امتزجت الأصوات و الهزات و الاصطدامات.. توقفت النوبة برهة، وقفنا و أنا ممسك بكلا الفتاتين و حثثتهما على السير بسرعة نحو المخرج... صوت حسام يصرخ: " إلى أين ؟؟ " قلت: " سنغادر المدينة بسرعة " قال: " الزم مكانك يا مجنون ! ستقتل " قلت للفتاتين: " هيا بنا " صراخ حسام و عائلته: " أبقوا مكانكم القصف لم ينته " لكني مضيت في طريقي.. حسام يصرخ: " رغد عودي إلى هنا.. عودي يا رغد.." رغد تتشبث بي أكثر، و أنا أتمسك بيدها بقوة و أمضي بها و بدانة إلى السيارة بابا السيارة الأماميين كانا مفتوحين، جعلت رغد تدخل بسرعة، و أنا أفتح الباب لدانة و أدخلها سريعا، ثم أقفز نحو باب المقود، فأجلس و أطير بالسيارة حتى قبل أن أغلق الباب.. لم تكن باللحظة التي يستطيع فيها دماغ أي بشر، غبي أو عبقري، أن يفكر.. انطلقت بالسرعة القصوى للسيارة أجتاز كل ما أعبر به، محاولا تحاشي الاصطدام بما يصادفني قدر الإمكان أرى الناس يخرجون من كل ناحية أفواجا أفواجا ، رجالا و نساء و أطفالا.. متخبطين في سيرهم يركضون باتجاهات عشوائية.. يهيمون على الأرض على غير هدى.. يصرخون و يهيجون و يموجون باعتباط و فوضوية.. و في نواح متفرقة تتناثر مخلفات الدمار .. الحجارة و الأشلاء.. و الجثث.. تحرقها النيران.. و تفوح روائح كريهة لا تستطيع الأنوف إلا استنشاقها مرغمة.. و كلما انفجر شيء جديد، منزل أو مبنى أو شارع أو سيارة.. صرخت الفتاتان و ارتعشت يداي و انحرفت في سيري جاهلا.. أيهما سيكون الأسرع لتحديد مصيرنا .. قنبلة ما ؟ أم اصطدام ما ؟ أم أن النجاة ستكتب لنا بقدرة من لا تفوق قدرته قدرة، و لا يضاهي رحمته رحمة.. كنت أشهد أمامي تصادم السيارات المسرعة، التي فرت من الموت.. و إليه و أرى أشياء ترتطم بزجاج سيارتي و تحدث تصدعات و كسور تحول دون وضوح الرؤية أمام عيني.. لم يكن باستطاعتي إلا الاستمرار في طريقي اللا محدد .. و كما تسير الحية سرنا ذات اليمين و ذات الشمال ننعطف كلما ظهر شيء أمامنا و نسلك كل تشعب نلقاه حتى انتهى بنا الطريق إلى شارع رئيسي... حانت مني الآن التفاتة أخيرا إلى اليمين.. فرأيت الفتاة الجالسة إلى جانبي و قد انثنت بجدعها إلى الأمام حتى لامس رأسها ركبتيها و وضعت ذراعيها على جانبي رأسها لتحاشي رؤية أو سماع شيء.. بينما أنفاسها الباكية اللاهثة تكاد تلهب قدمي ّ الحافيتين.. " رغد.. " لم تغير من وضعها .. التفت إلى الوراء لألقي نظرة على دانة، فوجدتها هي الأخرى مكبة على وجهها تحتضن المقعد المجاور و تنوح و تصرخ .. " يا رب.. يا رب.. يا رب.. " هتفت بأعلى صوتي: " يا رب.. يا رب.. يا رب " هتفت رغد بصوتها المبحوح المرتجف: " يا رب.. يا رب.. يا رب " لم يكن لدينا أمل في النجاة إلا برحمة الله.. أسير في الشارع بسرعة جنونية دون هدف.. وسط قصف جوي مباغت.. و القنابل و الصواريخ تهوي من السماء كالوابل.. و الأرض تتزلزل من تحتي.. و معي فتاتان مذعورتان تصرخان بفزع و هلع.. و النيران تحاصرني و تحيط بي من جميع الاتجاهات... وسط ليلة غدر عجت سماؤها بألسن النار و الشر.. مخلفا منزلا محترقا متهدما.. و مستقبـِلا مصيرا مجهولا غامضا.. كم من الوقت مضى.. لا أعرف كم من المسافة قطعت ؟ لا أعرف .. ألا زالت الفتاتان على قيد الحياة ؟ لا أعرف أنجونا من الموت ؟ أيضا لا أعرف... الشيء الذي ألاحظه هو أنني في وسط طريق بري.. و لم أعد أرى السماء متوهجة.. و لم أعد أحس بالأرض ترتعد كما لم أعد أسمع الدوي و لا الضجيج... " رغد.. دانة.. " لم تجب أي منهما... " رغد.. دانة أتسمعانني ؟؟ " و أيضا لم تردا.. هلعت، رفعت يدي اليمنى عن المقود و مددتها نحو رغد التي لا تزال على نفس الوضع.. " رغد صغيرتي.. ردي علي.. " ببطء تحركت رغد حتى استوت جالسة و هي تخفي وجهها خلف يديها خشية النظر .. و شيئا فشيئا فرّقت ما بين أصابعها و سمحت لنظرة منها للتسلل إلى المحيط و رؤية ما يجري.. " لقد ابتعدنا.. أأنتِ بخير ؟؟ " نظرت رعد غير مصدقة.. إلى الشارع .. إلى السماء.. إلى الطريق من أمامنا .. إلى دانة من خلفنا.. و إلي.. لم تستطع النطق بأي كلمة.. عادت تنظر إلى الوراء تريد أن تنادي دانة الدافنة وجهها في المقعد المجاور .. ألا أنها عجزت عن ذلك.. نظرت أنا إلى دانة و هتفت بصوت عال: " دانة.. عزيزتي.. اجلسي أرجوك " دانة لفت برأسها إلينا و جعلت تنقل بصرها بيننا .. ثم جلست و نظرت عبر النافذة المغلقة ثم قالت: " أين نحن ؟؟ " قلت و أنا أنظر إليها عبر المرآة: " الله أعلم " قالت: " أين نذهب ؟؟ " قلت: " الله أعلم.. فقط لنبتعد عن منطقة الخطر.. " نظرت إلى الوراء ثم إلي و قالت: " هل سننجو ؟ " أنى لي أن أتنبّأ ؟؟ الله الأعلم.. دانة اقتربت من مسند مقعدي حتى التصقت به و مدت يدها عبر الفتحة بين المقعدين إلى ذراعي تمسك به و تصيح: " هل هذه حقيقة ؟؟ وليد هل أنا أحلم ؟؟ ألا زلت نائمة ؟؟ هل مت ّ ؟؟ هل أنا حية ؟؟ " رفعت يدي فأمسكت بيدها،إن لأواسها أو لأطلب منها المواساة .. و كم كانت باردة كالثلج... " وليد " هذه كانت رغد التي تنظر إلي ربما طالبة المواساة و الأمان هي الأخرى.. ثم ضمّت يدها إلى أيدينا و دخلتا في نوبة طويلة و قوية من البكاء و النواح.. لقد كنت أنا أيضا بحاجة للبكاء مثلهما.. فما رأيت كان من الفظاعة و الشناعة ما يجعل الجبال الصخرية تخر منهارة.. ألا أن الدموع ستحول دون الرؤية أمامي، و أنا أقود وسط الظلام بسرعة رهيبة.. تماسكت و ركزّت على الطريق.. فجأة.. قالت دانة: " نوّار ! " ثم أخذت تلطم على وجهها و تنوح.. " يا إلهي ماذا جرى لنوّار ؟؟ " و نظرت إلي و هي تسأل: " الهاتف ؟؟ " و لكن الهاتف لم يكن معي... إننا نفذنا بجلودنا و الله العالم بما حلّ بمن بقي في المدينة.. لم تهدأ من نوبة النواح إلا بعد زمن... أظن القنوط غلبها و استسلمت لما يخبئه لنا القدر انتبهت الآن إلى عبوة لمشروب غازي موضوعة إلى جانبي، و كنت قد اشتريتها يوم أمس أثناء تجولي بالسيارة ثم لم أشربها.. مددت يدي إليها و لمست حرارتها التي استمدتها من حرارة السيارة.. خففت السرعة و أخذت العبوة و فتحتها بيدي اليمنى، ثم مددتها نحو رغد.. " اشربي " إذ لا بد أن حلوقنا جميعا جافة متخشبة من هول ما مررنا به.. رغد أمسكت العبوة بكلتا يديها و قربتها من فمها و رشفت مقدار ما رطب جوفها و أعادتها إلي.. " دانة.. خذي اشربي " مدت دانة يدها و تناولت العلبة و شربت منها ثم أعادتها إلي .. و جاء دوري لأشرب.. كان ساخنا غير مستساغ المذاق ألا أن العطش اضطرنا لازدراده عن آخره دون تذوق. ساعة السيارة كانت تشير إلى الثالثة و الأربعين دقيقة فجرا.. عندما رأيت أضواء أمامي... و طابور من السيارات الواقفة خلف بعضها البعض.. ظهر لي أنها نقطة تفتيش أو ما شابه.. خففت السرعة تدريجيا حتى انضممت إلى طابور السيارات.. و بدأ القلق يزداد بسرعة في نفسي و نفسي الفتاتين.. بدأ الطابور يتحرك ببطء.. لا يتناسب و تسارع نبض قلبي و أنفاسي.. و أخيرا حان دوري.. فتحت نافذة بابي فقرّب الشرطي رأسه منها و طلب البطاقة و الاستمارة و رخصة القيادة بعدها بدأ بطرح الأسئلة.. عن مكان قدومي و وجهتي.. " لقد فررت بعائلتي من المدينة الصناعية... حيث القصف المباغت.. سأنزل أقرب مكان آمن.. " و يبدو أنها كانت إجابة معظم من في السيارات السائرة قبلي.. " من معك ؟ " " شقيقتي و ابنة عمّي " " ألديك بطاقتيهما ؟ " " لا، لم أفكر في إحضار شيء كهذا فقد نفذنا بجلودنا فقط " الشرطي أطل برأسه من النافذة ناظرا نحو من يركب السيارة معي.. ثم طلب مني إيقاف السيارة جانبا و النزول. ركنت السيارة جانبا، و هممت بالنزول.. الفتاتان هتفتا في وقت واحد: " وليد " بخوف و وجل.. إن نسيتم فسأذكركم بأنني أرتعد خوفا من الشرطة و العساكر.. بعد الذي لاقيته في السجن تلك السنين.. و إن كنت سأطمئن الفتاتين فإن على أحدهم طمأنتي بادىء ذي بدء.. قلت بصوت مضطرب : " لا تقلقا.. سأرى ما يريدون " نزلت من السيارة و وطأت قدماي الحافيتين الشارع.. و ذهبت إلى حيث كان رجال الشرطة يقفون مع مجموعة من سائقي السيارات المركونة إلى جانب سيارتي.. الجو كان باردا و كذلك الأرض.. لكن رعدة جسدي الحقيقية كانت من أثر القصف و منظر رجال الشرطة المهاب.. هناك، استجوبني الرجال و دونوا المعلومات ثم طلبوا مني فتح السيارة لتفتيشها عدت إلى السيارة و معي اثنان منهم بعد قرابة العشرين دقيقة.. و فتحت الباب المجاور لرغد أولا و قلت: " يريدون تفتيش السيارة، اهبطا " لم تتحرك الفتاتان مباشرة، ثم هبطت رغد حافية القدمين أيضا و وقفت إلى جواري مباشرة و حين فتحت الباب الخلفي لدانة أبت الخروج.. و أشارت إلى شعرها.. لم تكن دانة ترتدي الحجاب مثل رغد... نظرت من حولي فلم أجد شيئا أغطي به رأس شقيقتي.. فضلا عن قدميها.. فيما الشرطيان يقفان على مقربة و الناس من حولي كثر.. نزعت قميص بذلة نومي و قدّمته لها لتختمر به.. و بعدما نزلت التصقت بي من جهة بينما رغد من الجهة الأخرى.. أمسكت بيدي الفتاتين و سرت مبتعدا عن السيارة بعض الشيء لأفسح المجال لرجلي الشرطة للتفتيش. بعد فراغهما من المهمة سألتهما: " أي مكننا الذهاب ؟؟ " قال أحدهما: " ليس بعد. فمغادرة هذه المنطقة محظورة لحين إشعار آخر " ثم أشار إلى الناحية الأخرى من الشارع و قال : " أبقوا هناك.." نظرت إلى تلك الناحية فرأيت مجموعة من الناس الذين أوقفهم رجال الشرطة مثلنا يقف بعضهم و يجلس البعض الآخر على حافة الشارع، متفرقين.. شددت الضغط على يدي الفتاتين و عبرت الشارع معهما تطأ أقدامنا الحافية العارية الأرض الجرداء و تستقبل أجسادنا تيارات الهواء البارد فتقشعر..و يزداد اقترابنا من بعض و تشبثنا ببعض والناس في شغل عن النظر إلينا..بأنفسهم و ذويهم ..و إلى السماء يرتفع البكاء و العويل و الصراخ و النواح.. من كل جانب.. و إليها أرفع بصري فأرى بدر الليلة السادسة عشر من شهر الحج يشهد فاجعة شعب غدر به عدّوه و انتهك حرمته في غفلة من أعين الناس.. و عين الله فوق كل عين ٍ شاهدة ٍ.. شاهدة ٌ. * * ** * * * * * ** الى القاء في الحلقة الخامسة والعشرون
|
يتصفح الموضوع حالياً : 1 (0 عضو و 1 ضيف) | |
|
|
![]() |
||||
الموضوع | الكاتب | القسم | الردود | آخر مشاركة |
جوهر الروعة | محمد الرشيدي _2 | منتدى الشـــعــــر | 5 | 05-12-2012 08:08 PM |
جوهر الروعة | محمد الرشيدي _2 | منتدى الشـــعــــر | 4 | 26-11-2012 06:26 AM |
تعبت(أفكر) في حياتي مع الناس؟وتعبت أعيش بـ(عقل غيري )حياتي!!!!!!! | جرح الـ غ ـرام | منتدى الشـــعــــر | 11 | 10-11-2008 07:00 AM |
رنامج قمة في الروعة ... لصنع رموز الماسنجر .... | أحمد الخياري | منتدى الكمبيوتر والجوال | 0 | 30-08-2007 01:23 AM |