السر الثاني من أسرار هذا الفن :
2- الفتل والنقض
الفتل والنقض .
أو الحجة والحجة المضادة .
اذا كان معنى الشاعر قوي ومحكم ويصعب الرد عليه من ناحية معناه أو مجاراة قوة معناه , ثم اتى خصمه ببيت يزيد قوة في المعنى عن خصمه وينسف حجته أو يجعلها ضعيفه فأنه نقض لفتل البيت ومن الأمثلة الكثيرة التي تحفل بها محاورات الكبار فقط .
قال نواف منور العازمي رحمه الله وهو شاعر محاورة كبير في المحاورة التي اوردتها كاملة في أول الموضوع .
وهي تتحدث عن أمور وقتال جرى بين الاخوان في عهد الملك عبدالعزيز بقيادة الشيخ فيصل الدويش وذلك بعد قتالهم للملك عبدالعزيز وبين قبيلة العوازم ومعهم سرايا للملك تقاتل في صفهم فقال نواف منور العازمي :
الناس راس وذنب وانتم كماهم روس وأذناب=خل النماره تنـزل روسهـا وتمـد يدهـا
أي انك ياعبدالله الميزاني تتحدث عن امور ومشاكل قبائل حدثت بين شيوخ ورؤس وانت لست منهم فلماذا تستميت في الدفاع عنهم , أي أنك من عامة مطير ولست مؤهلا للدفاع .
هذا بيت فتل سيجد الشاعر الكبير عبدالله الميزاني معنى قوي جدا ينقض حجة نواف العازمي فقال الميزاني :
حنا لقيناك يابيت الشعر عمدان واطناب=ماتستعز البيوت وبنيها كنـه هددهـا
معنى رائع وقوي اغلق الباب على حجة نواف العازمي ومعناه أن البيت لابد له من عمود يقوم عليه وطنب يشد به البيت حتى لايرتخي ويقصد عبدالله بذلك أصل القبيلة ومكانتها بين القبائل , فالقبيلة التي من هذه الفئة لاتقوم على عمود وطنب يسندها , فمهما بنت أو مهما فعلت فإنها مثل هدمها أي لاقيمة لشئ تفعله لأن الأساس والعمود والطنب غير موجود .
ومن نفس المحاورة هناك بيت آخر يقول نواف العازمي فاتلا لمعنى :
خلوني أضرب بسيفي كل ماحصلت مضراب=هاذي علوم الحقيقية ياابن غازي وأعتمدهـا
يقول العازمي أن قبيلتة متى ماوجدت الفرصة فأنها ستضرب عدوها , فلاتلام على فعلها لأن ذلك الزمن كان الكل يتربص ببعض والعدواة قائمة .
نقضه عبداله الميزاني بصورة قوية جدا فقال :
ياراس مشعاب في هذا السنه ماانته بمشعاب=والعين ماادري يصدق دمعها ولا رمدهـا
راس مشعاب هي منطقة جنوب الخفجي وقعت فيها معارك بين قبيلة العوازم وقبيلة مطير سابقا فقال أبن غازي هل دمعة العين البسيطة ويرمز لها بما فعل العوازم بقتل قليل من مطير بمن فيهم الشيخ هابس ابن عشوان وعددهم لايتجاوز 10 رجال , هل يقارن بالرمد الذي وقع للعين حتى دونت تلك الحادثة كتب التاريخ ودونت انقاذ ابن صباح للعوازم من الفناء وإدخالهم الكويت وايقاف الدويش عن مطاردتهم بالطائرات البريطانية .
فهل دمعة العين مثل رمدها .
ولكن رغم حساسية مايتحدث عنه الشاعرين نواف العازمي وعبدالله الميزاني من امور قبلية الا انهما دخلا وخرجا بدون ان يكتشف أحدا ماكانا يتحدثان عنه , وأتذكر الحفلة جيدا فقد كانت عند العوازم ولم يحصل فيها أي شئ يعكر الجو , بعكس الشعراء الشباب الي لايتقنون الرمز ودفن المعنى وياتون بأبياتهم واضحة جدا فمثلا اذا أراد الحديث عن مشاكل القبائل ومعاركهم فأن الجمهور يعرف ماذا يقولون وكيف يردون ويحدث حرج كبير جدا , وقد حدثت الكثير من المشاكل للشعراء الشباب وأتذكر موقف سلطان الجلاوي في حفل مزاين قبيلة قحطان عندما كان ضيفا لتلك القبيلة رد على شعرائها بوضوح لأن الشعراء الشباب لايتقنون هذا الفن ويلعبون بشكل سطحي وواضح ولم يخرج من تلك القبيلة الا بحراسة أكثر من خمس دوريات شرطة حتى تم ايصاله الى بلدته , وهنا الفارق الذي اتحدث عنه كثيرا .
الشعراء الكبار حفظوا كرامة هذا الفن من السطحية , لكن الجمهور السطحي ادخل الشعراء السطحيين معه حتى يكاد هذا الفن يتحول الى صراع ديكة لايلبث ان يمل منه الجميع ويغادرونه بغير رجعة , لابد من إحياء اصول المحاورة الحقيقية هذا الفن الجميل والعريق , وأنقاذها والا أصبحت حديثا تذروه الرياح .
من الفتل والنقض أيضا .
وفي محاورات أهل الحجاز وهي مقياس رائع لهذا الفن الأصيل لأنهم هم قاعدته الاساسية ومنهم انتشر الى غيرها من المناطق .
كانت محاورة بين الشاعر الكبير الجبرتي رحمه الله وبين مبروك ابو ناب الحربي وكان موضوعها وكما يتضح من االابيات هي طريق رئيسي تم ايصاله لديار قبيلة سليم وهم في الحجاز بين مكة والمدينة وكان جيرانهم قبيلة حرب , وكان الطريق عليه نزاع وكل قبيلة تريد أن يمرها وحصلت عليه قبيلة سليم اخيرا ومر بديارها , ومثل هذه الطرق تخدم القرى وتحييها وتنعشها تجاريا اضافة الى تخفيف المسافات على أهلها , لذلك قال الجبرتي ابيات فكاهية لأبوناب الحربي, قائلا له ( مرّ ديار سليم على الطريق وتمش فيها وأكشت وأعمل رحلة برية لكن لاتبني فيها بيوت لأن سليم لن يسمحون لك وهذه أبيات جميلة قالها الجبرتي :
الخط ميّل مع ديار سليم يوم الحـظ قـام=واليوم ديرة حرب يامبروك يعوي ذيبهـا
لا كن تعالوا عندنا ياصاحبي وابنو خيـام=بس الحجر والطوب والأسمنت لا تبني بها
نقض مبروك الحربي ابيات الجبرتي بمعنى رائع ذاكرا له بأن الفعل يوم كان لأهل الفعل قبل ستين سنة أي عندما كانت القبائل تفعل والدولة غير موجودة فأن قبيلة حرب هي التي تفوقت , واليوم وقت الأمان فأن الأمر للحكومة غصبا عن الجميع سواء رضينا او زعلنا أو وصل الخط لدياركم او ديارنا فيقول مبروك ابو ناب الحربي :
حنا كسبنا الأولات اللي لها ستيـن عـام=تدري بها والا ليا ذا الحين ماتدري بهـا
والخط ماهو خطكم تخطيط مرحوم العظام=واليوم نمشي به على خبث الدروب وطيبها
يقول شاعر مغمور اعلاميا لكنه كبير كعادة شعراء الحجاز القدماء وهو حبيب الزبالي الحربي :
ما كرهنا الطرقة اللي درجّت شيخ القبيلة=جالنا بأول شهر هذا الشهر جيتو وجينا
أي أن شيخكم ياقبيلة سليم وهم قبيلة خصمه الشاعر ( ابو مشعاب ) يقول ان شيخكم أتي لنا قديما في مثل هذا الشهر ولم نكره طرقته اي لم نكره قدومه الينا رغم انه يريد القتال وهذا دليل شجاعتنا , ودرجته منيته الينا في ديارنا .
فنقض بيته ابو مشعاب السلمي بصوره رائعة فقال ابو مشعاب السلمي :
عهدنا بك في زمان النار تقبس بالفتيلة=غاب نجم سهيل والليلة ظهر جيتو وجينا
يقول اننا نعرفك ونعرف قبيلتك في زمان النار اي وقت تقاتل القبائل نراك تقبس بفتيلة البندقية, لكن نجمك غاب في ذلك الزمن من فعول القبائل فيكم , لكنه الليلة ظهر في وقت الآمان .
وهذا النقض الحقيقي وابداع الكبار .
وفي محاورة بين الشاعرين الكبيرين مطلق الثبيتي وأحمد الناصر الشايع يقول مطلق لناصر في بيت فكاهي ومعروف ان الناصر صاحب تدين والثبيتي يقول ان لعبك في المحاورات ومقارعتك للشعراء الهتك عن الدين والعبادة فيقول الثبيتي :
نسيت الفقه والتوحيد والتفسير والتجويد=بعد عودت معهم كل يوماً تلعب الكوره
رد عليه الناصر يقول اك يالثبيتي تعض وأنت لم تأخذ جواز لسفرك الأبدي وهو الموت فأنت بلاجواز وبضائعك للآخرة قليلة فكيف تنصحني وانا لا اضيع جوازي فيقول الناصر :
تكايدني واناخا برك رجالاً تحب الكيد=جوازك للسفر ما فيه توقيعاً ولا صوره
في نقض طريف وفكاهي جرى بين الشاعرين الكبيرين محمد شريف الجبرتي رحمه الله وبين مستور العصيمي .
وكانا مسافرين على طائرة لدولة شرق آسيا , وكانا يتندران على إن النساء والرجال يشبهون بعضهم , فخطرت للجبرتي أبيات قالها وهم في الطائرة فقال الجبرتي :
اليوم يامستور من تحت السماء فوق السحاب=والبنت ماتعرف من الرجّال غيـر بحسهـا
حسها = صوتها .
ويقول الجبرتي لبعض جلسائه بعد ذلك , أنني قلت هذا البيت حتى يقول العصيمي ( ؟؟؟ سها ) عضو المرأة .
يقول أردت احراجه .
لكن العصيمي بذكائه خرج من الفخ وأعطى الجبرتي حل بسيط فقال :
أن كانها صعبه عليك الرب حلال الصعاب=ادخل يمينك مع مخيط البنطلـون وعسهـا
يعني تلمّس وتحسس بيدك حتى تعرف هل هو رجل أو امرأة .
وهذا البيت طريف جدا وبقى لطرافته , وهو من جميل النقض الرائع والذكي , فقد وجد العصيمي حل لمشكلة الجبرتي ووضع يمينه في مخيط البنطلونات .