عبدالعزيز الحمد البراهيم القاضي - 19/11/2006
تعد قصيدة شاعر نجد الكبير المرحوم / محمد العبدالله القاضي , في القهوة من نوادر ومعلقات الشعر النبطي , وقد طارت شهرتها في الآفاق , وحظيت كغيرها من قصائده -رحمه الله - بنصيب وافر من القبول لدى متذوقي الشعر الأصيل . ولا غرو فالقصيدة نادرة في بابها لما اشتملت عليه من دقة في الوصف , وإبداع في التصوير , وتأنق في اختيار الألفاظ وتسلسل في الأفكار يدل على تمكن هائل من زمام الشعر , وقدرة عجيبة على الغوص في تفاصيل الإبداع في وصف صناعة القهوة , دون أدنى شائبة من نبوّ في اللفظ , أو تكلف في الأسلوب .
وقد ذكر بعض رواة المجالس قصة مصاحبة للقصيدة تزعم أنها نتاج رهان جرى بين القاضي ومجموعة من أصدقائه , على أن يأتي بقصيده كاملة ليس فيها غزل أو تشبيب , وكان الرهان في زعمهم أن من يخسر يعزم أهل البلد , فلما كان من الغد وهو الموعد المضروب لتنفيذ المطلوب , اجتمعوا ليستمعوا , وكان صاحب البيت هو زعيم الرهان , ويقال إنه اتفق مع أخته أو ابنته أو زوجته على أن تجلس قريبا من غير أن تُرى وتستمع للقاضي , فإن رأت أنه سيكسب الرهان تمر من أمامه عن بعد , بعد أن تظهر شيئا من محاسنها , علّه يميل إلى الغزل فيخسر الرهان .
يقول الرواة : ثم إن القاضي انطلق في القصيدة فلما أحست الفتاة أنه يكاد أن ينهيها دون أن يتعرض للغزل , خرجت ورآها القاضي , ثم التفت إلى صاحب البيت قائلاً : ها الحين يا طويل العمر يحتاج ! , فقال : يحتاج ماذا ؟
فقال القاضي :
يحتاج من خمر السكارة إلى فاق * طفل تشف شفاه والعنق مفهوق
ثم انطلق في الغزل حتى أتم القصيدة معترفا بخسارته للرهان .
ولشديد الأسف فإن هذه القصة رائجة بين العامة ! وتروى على أنها حقيقة واقعة والحق أن التهافت فيها - كما يبدو للقارئ - واضح , ولا يعني رواجها صحتها , ومن أهم الأدلة على فسادها مخالفتها للواقع , فمن غير المعقول أن يرضى صاحب البيت بأن يعرض محصناته أمام الرجال الأجانب بقصد فتنة ضيوفه أو أحدهم , حتى ولو كان من أفسق الفاسقين , وأفجر الفاجرين , وخصوصا في مجتمع نجدي مثل مجتمع عنيزة . وإن لم يكن المانع الدين , فهو سلطان العادات والتقاليد التي تقدس مكارم الأخلاق وتحتقر مخالفيها ؛ وهو سلطان لا يشك في قوته وتأثيره . ومنها أن هذا الزعم يتنافى مع أخلاق وسجايا المرحوم / محمد العبدالله القاضي, الذي عرف عنه أنه من وجهاء البلد , الذي لا يساجل إلا الأمراء , ورجل بهذه المنزلة لا يجالس الرعاع وسفلة القوم , ولا يسف في أخلاقه . والقاضي رحمه الله له مهابة ومنزلة كبيرة في البلد؛ منزلة تعلو به إلى أن يهابه حتى قادتها وأمراؤها العظام , والدليل أنه مدح طلال الرشيد وهو الخصم الألد لأمراء عنيزة وأبوه وعمه قاتلا مؤسس إمارة السليم المرحوم / يحيى السليم , وكان ذلك في بقعاء سنة (1257هـ ) , ولم يجرؤ الأمير آنذاك وهو عبدالله اليحيى السليم ولا نائبه داهية الدواهي زامل العبدالله السليم , على توجيه كلمة واحدة من لوم أو عتاب له , لهيبته وعلو شأنه عندهم .
ومنها ما يعود إلى القصيدة التي تفترض القصة المزعومة أن هناك انقطاعا فكريا ونفسيا فيها سببه أمر طارئ هو ظهور الفتاة , الأمر الذي جعلها تتجه من الوصف إلى الغزل . والحق أن من يتأمل القصيدة لا يجد شيئا من ذلك ألبتة , فهو ذكر همومه وكيف عالجها بأن اشترى حبوب القهوة , ونقاها , ثم حمصها , ثم دقها , ثم طبخها , ثم بهرها , ثم شربها ,, فلما أروى كيفه منها وحاجته إليها التفت إلى متعة أخرى تكمل هذه المتعة وهي ملاعبة فتاة جميلة , وهذا ديدن الشعراء . فأين التوقف المفاجئ المزعوم ؟! لايوجد له أي أثر , لأن القصة في الأساس مختلقة , ولم تروها المصادر المعتمدة , وخصوصا رواية الربيعي رحمه الله الذي يذكر مناسبات القصائد إذا كان لها مناسبات .
وزعموا كذلك أن الرهان يقضي بأن يكون عدد أبيات القصيدة مئة بيت , وهذه القصيدة عدد أبياتها اثنان وثلاثون بيتا لا تزيد .
ومما ينبغى التنبيه إليه أن كثيرا من رواة المجالس - المسولفجية - يخلطون مع القصيدة أبياتا ليست منها , كالبيت :
كنه مع الدلال يجلب بالأسواق ***** وعامين عند معزل الوسط ما سوق
وهو لراعي قفار الشاعر الكبير المرحوم / زيد السلامة الخوير , من قصيدته الشهيرة التي مطلعها:
باح العزا يا ديب قم دن الأوراق ***** قرطاس شامي صافي تقل غرنوق
ولم يسلم من ذلك الخلط شيخ أدباء الشعر النبطي الأستاذ عبدالله بن خميس, أمد الله في عمره ومتعه بالصحة والعافية , فقد أدخل - سهواً - هذا البيت في قصيدة القاضي عندما اختارها لتكون نموذجا للشعر النبطي في كتابه ( الأدب الشعبي في جزيرة العرب ).
ومما أدخل في القصيدة من غيرها كثير من أبيات قصيدة الخوير المذكورة , وكذلك بيت عبدالله البراهيم الخويطر الشهير بابن جابر ( 1291 هـ ) :
والله لو يمشي شقاق بالأسواق ***** بين الملا ما يمطخ الخمس مخلوق
وقد سبق أن أشرت في مقالة لي حول الموضوع في العدد التاسع - إن لم تخني الذاكرة - من النشرة اللي تصدرها هيئة جمع شمل الأسرة بمناسبة اللقاءات السنوية , أشرت إلى عدد من القصائد المشابهة لقصيدة القاضي .
ونزولا عند رغبة ابن العم الأخ / فوزي بن أحمد المحمد , التي نقلها إلى مشكورا ابن العم والصديق الأخ / عادل بن عبدالعزيز العبدالرحمن , وهي الحصول على القصيدة الصحيحة , لرغبته في تزيين مجلسه الشعبي في دارته العامرة بها ؛ يسرني هنا أنا أنشر القصيدة - ولأول مرة - برواية شيخ الرواة , أصمعي الشعر النبطي , صناجة عنيزة المرحوم / عبدالرحمن البراهيم الربيعي ( 1402 هـ ) , ولا يعني هذا أن القصيدة الصحيحة لم تنشر من قبل , بل نشرها المرحوم خالد الفرج ( 1373 هـ ) في ديوان النبط اعتماداً على مخطوط لديوان الشاعر بخطه أطلعه عليه المرحوم العم / محمد الحمد المحمد العبدالله , حفيد الشاعر . وقد ضاع ولشديد الأسف بوفاة الأستاذ / خالد الفرج , الذي ظن إطلاعه عليه إهداء !! وقد نشرت القصيدة نقلاً عن ديوان النبط في عدد من الدواوين , منها الجزء السادس من الأزهار النادية , للمرحوم / محمد سعيد كمال , وديوان الشاعر / محمد العبدالله القاضي , الذي نشره خالد الحاتم سنة 1404 هـ , وغيرها .
وإليكم القصيدة برواية الربيعي رحمه الله :
يا من لقلب كل ما التم الاشفاق ***** من عام الأول به دواكيك وخفوق
يجاهد جنود في سواهيج الإطراق ***** ويكشف له أسرار كتمها بصندوق
إلى عن له تذكار الأحباب واشتاق ***** باله وطف لخاطره طاري الشوق
قربت له من غاية البن ما لاق ***** بالكف صافيها عن العذف منسوق
احمس ثلاث يانديمي على ساق ***** ريحه على جمر الغضا يفضح السوق
واحذرك والنية وبالك والاحراق ***** واصحا تصير بعاجل الحمس مطفوق
الى اصفر لونه ثم بشّت بالاعراق ***** صفرا كما الياقوت يطرب لها الموق
وعطّت بريح فاضح فاخر فاق ***** لا عنبر ريحه بالأنفاس منشوق
كبه بنجر يسمعه كل مشتاق*****راع الهوى يطرب إلى دق بخفوق
واحشه بدلة مولع كنّها ساق ***** بلورة مربوبة تقل غرنوق
خله تفوح وراعي الكيف يشتاق ***** إلى طفح له جوهر صح له لوق
أصغر قموره كالزمرد بالاشعاق ***** واكباره الطافح كما صافي الموق
زله على وضحا بها خمسة أرناق ***** هيل ومسمار بالأسباب مسحوق
مع زعفران والشمطري إلى انساق ***** والعنبر الغالي على الطاق مطبوق
إلى اجتمع هذا وهذا بتيفاق ***** صبه كفيت العوق عن كل مخلوق
بفنجال صين صافي عنه الارماق***** تغضي وكرسيه غدان لمعشوق
إلى صب فابصر جوهره تقل شبراق ***** رنق تصور بالحمامة على الطوق
شكل غرا الفنجال لونه كما انراق ***** دم لقلب وإن مزع منه معلوق
خمر إلى منه تساقى بالأرياق ***** عليه من ما صافي الورد مذلوق
راعيه كنه شارب كاس ترياق *****كاس الطرب وسرور من ذاق له ذوق
يحتاج من خمر السكاره إلى فاق ***** خشف تشف شفاه والعنق مفهوق
عبث يعيل بحبةٍ منه ماماق ***** وهو يضاهي زاهي البدر بشعوق
بين اشفيته إلى غنج بارق حاق ***** عجل رفيفه بارقه غرق بطبوق
سحر كتب من حبر عينيه باوراق ***** خديه صادين ونونين من فوق
كن العرق بخدودها حصّ أرناق ***** ينثر على صفحات بلورة الشوق
إلي تبسم شع وأشرق بالآفاق ***** نور يفوق البدر مع حسن منطوق
بالعنق كنّ الورس والمسك به راق ***** ما مشخص في صدره الشاخ مدقوق
يمشي برفق خايف مدمج الساق ***** يفصم حجول ضامه الثقل من فوق
إلى صفا لك ساعة وأنت مشتاق ***** فاقطف زهر مالاق فالعمر ملحوق
وإلى حصل ما قيل عندي فالارزاق ***** بيد كريم كافل كل مخلوق
هذا وصلّوا عد ما ناض برّاق ***** أو ما شكا الفرقى شفيق ومشفوق
على النبي ما زِج زاج بالأوراق ***** وآله وصحبه عد ما سيق مسيوق
وفي الختام أعتذر للجميع عن القصور , لأنني كتبتها بسرعة من غير مراجعة ,
أبو إياس
عبد العزيز الحمد البراهيم
الاثنين 1426/8/15هـ