عبدالرحمن بن محمد السدحان
(1) سئلتُ مرةً عن موقع (الحُب) في حياتي فقلتُ:
* أحمد الله أولاً أنّ حياتي لا تشكو من التصحُّر العاطفي، رغم موانئ الظَّمأ التي رسوتُ فيها عبر مشوار الطفولة، وأحمد الله ثانياً أنّ الحرمان من (دفْء) القُرب للوالدين لم يصادر مني القدرة على حبِّ الناس بما يرضي الله!
* * من جهة أخرى، الحبُّ ليس العروة الوحيدة التي تربط رجلاً بامرأة تحت قبّة الزوجية، رغم ضرورته الفعلية لنجاح التّوأمة العاطفية بينهما، لكن الحب الذي أعنيه هنا، هو شعور المرْء بأنّه ليس (جزيرة) وسط (محيط) من الظلمات، لكنه (نخلة) عملاقة في واحة من العطاء!
* * أمّا إن كان السائل يعني هنا النبضات الشعورية العابرة التي يمرُّ بها المرء منا في صَدْرِ شبابه، مما يسمَّى (حُبّاً)، فتلك فترات تشْبه شمس الأصيل لا تلبث أن تأويَ إلى المغيب!
**(2)
* وسئلتُ مرة عن موقع (البكاء) في حياتي، فقلتُ:
* ليس للبكاء موعدٌ في حياتي، حتى وإنْ عزَّ أحياناً ونأى، والأعجب من هذا أنّ الدمعة لا تستجيب أحياناً لخفقة الرُّوح حين تحل، إمّا تمرُّداً أو دلالاً، رغم شدة الحاجة لها، وكأنّها (تتعاطف) مع ظرفي الحزين، كي أبقى حزيناً، وتتوقّف هي عند بوابة العين .. تأبى الخروج كي تزيل غُبار الحُزن من خاطريّ! ولذا، أغبطُ الأطفال أحياناً، لأنّ الدَّمع يستجيب لندائهم لأتفه الأسباب، فتصل (رسائلهم) إلى حيثُ يجب أن تصل، ويتحقق عبرها ما يريدون!
* * أمّا نحن الكبار سناً، فإنّ بين بعضنا والدمع أُلفة أو جفوة أو عداءً، وأنا أنتمي إلى الطَّيف الأوسط من هذا التصنيف، فالدمع عندي يجفو .. قبل أن يستجيب لندائي ولو بعد حين، وأضرب لذلك مثليْن: فحين بلغني نبأ وفاة والدي رحمه الله، كنتُ خارج المملكة في شأنٍ رسمي، وقد اهتزت أوتار قلبي شجناً، وتمنّيتُ في تلك اللحظة (سُقْيا) من الدمع يمنحني صلابة وهدوءاً، ويبدِّدُ سحائب الحزن في خاطري! ثم عدت إلى المملكة .. واستقبلت العزاء، ولكن .. ظلَّ الدمع حبيس العين شهرين تقريباً، حتى كان الفجر من ذات يوم أواخر رمضان من العام نفسه، وكنتُ أمضي إجازة عيد الفطر المبارك في ضيافة والدتي رحمها الله، وفيما كنت خاشعاً في المسجد بين يدي الله .. خلف الإمام، إذا بالدَّمع يخترق حواجز العينين لحظة تذكَّرت أبي، ثم ينهمر مدراراً، وكانت لحظة لا تُنسى!
* * أمّا المرة الأخرى التي (زارني) فيها الدَّمع فكانت عقب وفاة سيدتي الوالدة رحمها الله بيوم واحد، حين كنتُ في سُرادق العزاء استقبل المواسين، وكنت أتظاهر بالجَلَد حين هاتفني صديقٌ من جدة معزِّياً، ثم قال: (لقد قرأت للتوّ مرثيتك في أُمِّك رحمها الله، فحاصرني الدَّمع من كلِّ صَوب متذكِّراً أمي ..) ثم انهار هو باكياً وأقفل الهاتف، وهنا، تفجَّرَتْ ينابيع الحزن في قلبي، فاستجابتْ لها عيناي بدمعٍ غزير، واستبكيتُ بذلك بعضَ الحاضرين!
* * تسألني بعد ذلك متى بكيتُ آخر مرّة، وأقول: الدُّمع لا يؤرخ بزمان أو مكان، لكن الظُّروف تسُوقه بلا موعد .. في أيِّ زمان أو مكان!
المصدر/ جريدة الجزيرة السعودية